;
نبيلة الوليدي
نبيلة الوليدي

عندما يغدو الوطن سجنا..!! 892

2017-04-03 21:20:12

في لحظات متفردة لا توصف، تنبعث الذكريات الأكثر روعة.. تتمرد على قيد الواقع.. تتحرر من ربقة الأسر.. تنطلق بتوثب؛ نافضة عنها ركام الوجع.. تتجلى بملائكية مدهشة.. تسطع لتتلألأ ببريق أخاذ من وسط زوبعة وجدان محترق..!
صوت شجي ينبعث من زمن مضى؛ لحن لم أسمعه من قبل، يعزف على وتر الروح برفق.. يستحيل سيمفونية عبقرية تأخذني إلى هناك..!
 سلسلة صور تنسل أطيافا، من مفكرة الذاكرة الملتاثة عنوة بسواد الحاضر.. تصطف تلك الصور كسرب طيور ملونة.. تتمايل وتختال أمامي.. تبدع في صياغة عالم خرافي من حولي..!
هذا العالم الخرافي كان بالأمس حقيقة بسيطة.. مجرد يوميات.. أنشطة مكررة.. ربما مللت بعضها في ذلك الزمن البعيد القريب..!
ربما شكوت مراراً من ازدحام أجندتي بالمواعيد.. من اكتظاظ ساعات نهاري بالأنشطة: 
دبلوم إرشاد أسري موسمي.. دورات تنمية بشرية أسبوعية.. محاضرة تدريبية لمدرب عالمي جاء في زيارة قصيرة لتعز.. تقييم المشاركين في دبلوم إعداد المدربين.. تقييم المتسابقات في كتابة المقالة.. رحلة للحديقة مع أفراد أسرتي الكبيرة.. محاضرة دينية في جامع الحي.. جلسة تذاكر مع صديقات الدراسة.. محاضرات صباحية كل يوم في الجامعة.. ندوة أدبية في مكتبة السعيد.. معرض للمنتجات المصرية والسورية.. مهرجان على مسرح النادي السياحي.. دورة تأهيلية في مجال ما..اجتماع لهيئة إدارة مؤسسة طوعية..افتتاح مؤسسة تنموية جديدة..دبلوم تقني..حفلات تكريم للمتفوقات....إلخ 
تعز كانت تعج بكل هذا الزخم الحضاري من الأنشطة التنموية التي صاغت جيلا من المتفردين، والمتفردات..!
كل هذا سكت بغتة، وعلا بدلا منه صوت السلاح..!
أنطفأ النور واختفى كل ذلك التألق، وخبا بريق الإبداع، وتمزقت كل المعاني الجميلة للإنسان المتفوق الذي كان هاهنا يسعى للمجد، تلاشى فجأة بعد أن قطع أشواطا في طريق الامتياز البشري.. حل مكان كل هذا رتل من الحديد..جند قساة غلاظ..أسلحة من أنواع شتى..!
 تفرق طلاب المجد، وغاب رواده.. طاروا شعاعا، وسكنوا في أقطار الدنيا وغدت تعز مجزرة رائحة الدماء تزكم الأرواح.. نباح الكلاب يرافق عزف شهيق القتلى وقت الأسحار.. حتى صوت المؤذن خرس لزمن.. أطبق الظلام على الزوايا وعلى العقول، وغطى رماد الرفات القلوب...!
اشتعلت المواجهات حتى أتت على كل ما تبقى من بهجة الحياة في تعز.. الذين غادروها مع أول ضرب للنار لا يمكنهم تصور كيف غدت هذه "الفاتنة" بعدما سقيت تربتها بالدم حتى الثمالة.. حتى التوحش.. حتى الجفاف.. حتى علا وجهها السواد..!
كانت تعز متعة الناظرين _ برغم تدني مستوى الخدمات فيها على الدوام _ !!
كانت تتباهى بامتلاكها لنفس فردوسية، وروح قدسية تميزها عما سواها من الحواضر والمدن..كنا نسير في بعض طرقاتها الضيقة، الشوارع المكتظة بالفوضى، أو المتناثر على جوانبها الزبالة ولا نرى فيها سوى الجمال، ولا نشتم منها سوى عبق الفل وشذى الريحان، كانت على الدوام تداعب قلوبنا بنفحات أريج نسماتها المتفردة..حتى رياحها الدائمة كانت تأخذ بزخمها أفئدتنا إلى عوالم من الخيال البديع..!!
كانت تعز المدينة اللطيفة الحانية، عذبة الماء والهواء، الساحرة التي ترصد القلوب بطلاسم عشق أبدي غامض..تحرك في النفس الرغبة في العطاء والحب...تعلم عشاقها فن البوح وشعر الغزل..!!
كنا نرتوي من ندى أنفاس صبحها التي ليس لها مثيل..أنفاس تعز منقطعة النظير؛ كأنما تزور الفردوس عند كل سحر، أو يزورها ملائكة الفردوس..عند كل فجر..!!
كنا نغترف الأنس من عبق أمسياتها..وننعم بنعاس مسكر بين طيات لياليها الناعمة.. كانت جنة الوطن وفردوسه تعز..!!
اليوم بعد أن رزحت تحت حوافر غزاة الغدر، وسكتت فيها الأنفاس الطيبة، وسكنتها روح الخبث والحقد..بعدما ارتوت من دماء بنيها .. بعدما غادرها كل نشاط إنساني، وحل محله العنف والحقد، والعدم المتحرك ؛ غدت تعز دار غربة موحشة..!
أشعر بأن الوطن كله قد أصيب بهذه الحالة..!
ما أقسى غربة الحضور.. كل من يحب وطنه الجميل الأسير بين مخالب القسوة والمطامع والغضب هو سجين غربة من لون آخر..غربة عن وطن صار لنا سجنا وصرنا نحن سجانيه..!
الذين بقوا في الداخل بعد النكبة، صارت قلوب كثير منهم سجنا لمشاعر بغيضة مرفوضة تجاه وطنهم المشوه بسابق إصرار وترصد، يؤرقهم شعورهم بالغربة بين سمائه وأرضه التي استحالت جدران منفى تنطبق على صدورهم يوما بعد يوم..!
 حتى الطيور المهاجرة، أكاد أجزم بأنها هي أيضا مسكونة بوجع الحنين والحزن.. تائهة..مطحونة بين دوامات غربة الغياب.. سجينة نكبة وطن كان جميلا فاتنا..!
أقسم يا وطني بأني سأبقى أسيرة هواك.. حتى إن فارقتك فرارا من أسوار محنتك التي تكاد تطبق على صدري وتزهق روحي، وجمودك الذي يقتلني مللا ورتابة، وقسوة أهلك التي سرقت أمني ؛ فسوف تبقى يا حبيبي سجينا يسكنني، سوف أحملك بين جنبي أينما اتجهت، وسوف أبقى سجينة وجعك، أحن كل يوم للعودة إلى مسرح إفنائك..!!

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد