مخطّط إغلاق “الأونروا”.. إبادة صامتة ضد “غزة المحاصرة”

2024-03-02 01:32:30 أخبار اليوم_ بوابة تونس محمد بشير ساسي

  

منذ أن شنّت حربها المدمّرة على قطاع غزة ردّا على عملية طوفان الأقصى المزلزلة في السابع من أكتوبر الماضي، دأبت إسرائيل على اختلاق روايات مختلفة ومتعدّدة لتبرير استهدافها المتعمّد للمستشفيات والنقاط الإسعافية ولتضييق الخناق على المؤسسات الإغاثية من أجل تركيع الشعب الفلسطيني وتجويعه، المحاصر برا وجوا وبحرا.

روايات كاذبة

كان جيش الاحتلال ينسب القصف والتدمير اللذين يستهدفان المستشفيات تارة، إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، مثل اتهام حركة “الجهاد الإسلامي” بقصف مستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، في 17 أكتوبر 2023. وتارة أخرى، يدِّعي أنّ حصاره للمؤسسات الصحية، مثل مجمّع الشفاء والمستشفى الإندونيسي وغيرهما، بسبب استخدامها من قبل حركة حماس بِنيةً تحتية لأغراض عسكرية؛ إذ يَعُدُّها مراكز للقيادة والسيطرة وإدارة العمليات العسكرية وتخزين الأسلحة وإيواء المقاتلين.

وتارة، يُروِّج لرواية وجود أنفاق أسفل مجمّع الشفاء. وفي محاولة تأكيد مزاعمه، عرض الجيش الإسرائيلي فيديو توضيحيًّا لما وصفها بمعلومات استخبارية دامغة على وجود الأنفاق تحت المجمّع الذي يُشكِّل في نظره “القلب النابض” لعمليات الحركة. ويُمثِّل هذا التعدّد في الروايات الإسرائيلية سياسة ممنهجة في التغطية على الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، والسعي إلى تشويه فصائل المقاومة وشَيْطَنَتِها، وهو ما تكشفه أحداث ووقائع كثيرة.

لم تستطع الرّوايات المختلفة التي أنتجها الاحتلال الإسرائيلي عن المستشفيات بقطاع غزة -في محاولات يائسة لإثبات أنّها مراكز للقيادة والسيطرة وإدارة العمليات العسكرية لحركة حماس- أن تُقنع الرأي العام العالمي، ولا حتى بعض وسائل الإعلام الغربي، الذي طالما روَّج للدعاية الإسرائيلية والأخبار الزائفة في سياق الحرب على غزة. فقد كشفت، على سبيل المثال لا الحصر، قناة “سي إن إن” أنّ الجيش الإسرائيلي ربما نقل ترتيب الأسلحة في مستشفى الشفاء أو أعادها قبل قدوم الصحفيين. كما شكَّك الإعلام الإسرائيلي نفسه في رواية وجود أنفاق أسفل مجمّع الشفاء، واعتبر أنّ النفق الذي عرضه الجيش الإسرائيلي ليس سوى قناة صرف صحي غريبة المظهر، أو قناة كابل خرسانية لمولّدات الطاقة.

وقد اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، بأنّ إسرائيل هي التي أنشأت الملاجئ وحفرت الأنفاق الموجودة تحت مستشفى الشفاء قبل 40 أو 50 عاما. وقد أثارت تصريحات باراك موجة غضب عارمة في إسرائيل، واتُّهِم بالمساس بالأمن القومي خلال الحرب، وتعالت الأصوات المطالبة بمحاكمته بتهمة “الخيانة”، وسحب الجنسية الإسرائيلية منه.

سياسة التجويع

وإذا كان جيش الاحتلال الإسرائيلي فشل في تقديم رواية متماسكة تُقنِع الرأي العام العالمي بشأن استهدافه المؤسسات والمراكز الصحية في غزة وإخراج معظمها عن الخدمة، فإنّه لم يتوقّف عند هذا الحدّ بل أدخل الفلسطينيين دائرة الإبادة الصامتة (سياسية التجويع) عبر الإضرار بعمل المؤسّسات الإغاثية وصورتها وتضييق الخناق على مراكز إيواء النازحين التابعة للأمم المتحدة كما يحصل الآن مع وكالة غوث وتشغيل اللاّجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي شكّلت لعقود محور حياة اللاجئ الفلسطيني في الداخل في الخارج.

وربما تساعدُنا “عقيدة التدمير الإسرائيلية” للإنسان الفلسطيني وقضيّته العادلة على إدراك خلفيّات الحملة الشعواء القديمة – الجديدة، التي تُشنّ على الوكالة الأممية التي تعيش أزمة كبيرة منذ اتهام إسرائيل 12 من موظفيها البالغ عددهم 13 ألفا في غزة بالتورّط في الهجوم على مستوطنات غلاف غزة، مضيفة أنّ 10% من جميع العاملين في “الأونروا” ينتمون إلى حركة حماس.

وعلى إثر هذا الاتهام الذي لم يستند إلى أدلة قامت المؤسسة الأممية فورا بإنهاء عقود 9 موظفين مشتبه بهم وتوفي آخر ولم يتم التعرف على الباقين، كما فتحت تحقيقا لتحديد المسؤوليات الدقيقة لعشرات الموظفين المستهدفين.

ولكن ذلك لم يبدُ كافيا، فبالتزامن مع صدور أمر محكمة العدل الدولية “بقبول” وقوع إبادة جماعية في غزة، ودعوتها لضمان تقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين العالقين في قطاع غزة، جاءت سرعة رد فعل الدول المانحة من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا بتعليق التمويل الحيوي لهذه المنظمة ليصل مجموع التمويل الضائع بنحو 56% من ميزانية المنظمة الكلية، وهي الدول نفسها التي تجاهلت مقتل أكثر من 150 من موظفيها على يد الجيش الإسرائيلي خلال العدوان على غزة، وهو أكبر عدد من الضحايا يُسجّل في صفوف موظفي الأمم المتحدة في حرب واحدة.

تحرّك أممي

ففي محاولة للتحرّك من أجل تخفيف وطأة الحملة القوية ضد أهم وكالاتها في الشرق الأوسط، أصدرت الأمم المتحدة بيانا مدوّيا تحت عنوان “المدنيون في غزة في خطر شديد بينما العالم يراقب: عشرة متطلبات لتجنّب كارثة أسوأ” يصرخ في وجه الولايات المتحدة باعتبارها حارسة النظام العالمي. وركّز بيان المسؤولين الرئيسيون في اللجنة الدائمة المشتركة لوكالات الأمم المتحدة والوكالات الطوعية على عشر نقاط مرتبطة أساسا بالجانب الإنساني – الإغاثي:

– وقف فوري لإطلاق النار.

 – حماية المدنيين والبنية التحتية التي يعتمدون عليها.

 – إطلاق سراح الرهائن فورا.

– توفير نقاط دخول موثوقة تسمح بإدخال المساعدات من جميع المعابر الممكنة، بما في ذلك إلى شمال غزة.

– توفير ضمانات أمنية ومرور دون عوائق لتوزيع المساعدات على نطاق واسع في جميع أنحاء غزة، دون أيّ رفض أو تأخير أو إعاقة للوصول.

– تهيئة نظام إخطار إنساني فعّال يسمح لجميع العاملين في المجال الإنساني والإمدادات الإنسانية بالتحرّك داخل غزة وإيصال المساعدات بأمان.

– تأمين الحركة والانتقال في الطرق والأحياء التي سيتم تطهيرها من الذخائر المتفجرة.

– توفير شبكة اتصالات مستقرة تسمح للعاملين في المجال الإنساني بالتحرّك بأمن وأمان.

– تأكيد أنّ الأونروا هي العمود الفقري للعمليات الإنسانية في غزة، لتلقّي الموارد التي تحتاجها من أجل تقديم المساعدة المنقذة للحياة.

– وقف الحملات الرامية إلى تشويه سمعة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية التي تبذل قصارى جهدها لإنقاذ الأرواح.

كما ناشد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الدول المانحة “ضمان استمرارية” عمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وتأكيد أنّها تمثّلُ “العمود الفقري” للمساعدات في غزة.

ودخل المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني على خط إلى وجهة النظر ذاتها، محذّرا من وصول المؤسسة إلى نقطة الانهيار وفقدان قدرتها على القيام بواجباتها بموجب قرار الجمعية العامة رقم 302، الذي تأسست بموجبه في 1949.

كما أعرب لازاريني عن خشيته من أنّ المنطقة على شفا كارثة هائلة ستكون آثارها خطيرة على السلام والأمن وحقوق الإنسان، إذا لم تستطع الوكالة تلبية حاجات اللاجئين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان وسوريا والأردن، حيث بات مبلغ 440 مليون دولار من التمويل معرّضا للخطر لكون أموال الأونروا ستنفد مع بداية مارس الحالي، وفق ما صرحت به جولييت توما مديرة الاتصالات لدى وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم في الشرق الأدنى.

قرار لا رجعة فيه

ورغم صدور تقييم مكون من 4 صفحات أجراه مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي (إن آي سي) يشكّك في صحة مزاعم إسرائيل بتورّط موظفي الأونروا في هجوم حماس رغم تنسيق الطرفين لتقديم المساعدات الإنسانية والعمل في غزة، إلّا أنّ قرار إغلاق الوكالة لا رجعة فيه على المستوى السياسي الرسمي المعلن في إسرائيل وكذلك الخفي، ويمكن رصد مظاهره كالآتي:

– تشديد وثيقة اليوم التالي للحرب على غزة التي قدّمها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية “الكابينت ” على إغلاق وكالة «الأونروا»، وأن تحلّ محلها وكالات إغاثة دولية أخرى.

– قرار وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إلغاء الإعفاءات الضريبية للأونروا”، ووفق هذا السيناريو فإنّ الوكالة ستكون مطالبة بدفع الضريبة على مختلف مشترياتها من السلع، ما يعني عبئا ماليا إضافيا، في وقت تعاني من شحّ المنح الخارجية.

وإذا كانت مشتريات الأونروا من السلع سنويا تبلغ 200 مليون دولار، فإنّها ستكون مطالبة بعد تنفيذ قرار إلغاء الإعفاء، بدفع ضريبة قيمة مضافة تبلغ 34 مليون دولار، كذلك كانت الوكالة معفاة من دفع ضرائب (القيمة المضافة، والمحروقات) على الوقود، وكلاهما تشكّلان نحو 67 من السعر النهائي لكل لتر وقود، وبالتالي فإنّ إلغاء الإعفاء سيضيف نفقات إضافية.

– مطالبة وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس المفوض العام للأونروا إلى الاستقالة بالإضافة إلى دعوته إلى تغيير الأونروا بوكالة “تكرس عملها للسلام والتنمية الحقيقيين” بزعم اكتشاف نفق لحركة حماس تحت مقر الوكالة الرئيسي الذي تم إخلاؤه في مدينة غزة، كما ادّعى الجيش الإسرائيلي العثور على قذائف “الهاون” داخل أكياس تابعة للوكالة الأممية إثر عملية مداهمة لعدة مبانٍ كانت حماس حوَّلتها إلى مجمّع قتالي.

– عقدت منظمة “مراقبة الأمم المتحدة” غير الحكومية الموالية لإسرائيل مؤتمرا سريا في مطعم بالقرب من الأمم المتحدة دعت إليه مجموعة من الشخصيات -من بينها المنسق الخاص السابق للشرق الأوسط دينيس روس في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون- للعمل على إلغاء أونروا التي تعتقد أنها تعمل على إدامة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

ووفق تقارير صحفية سويسرية فقد هاجم المدير التنفيذي للمنظمة، هيليل نوير، خلال المؤتمر “القمة الدولية من أجل مستقبل دون أونروا”، بشكل مباشر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي كان على بعد بضعة مئات من الأمتار لافتتاح الدورة الـ55 لمجلس حقوق الإنسان، قائلا: “أنت تقول إنّ أونروا لا يمكن الاستغناء عنها وإنها حيوية بالنسبة إلى الفلسطينيين، ومع ذلك شارك 42 عضوا منها في هجمات 7 أكتوبر، وما بين 1200 و1500 موظف في الوكالة هم جزء من حركة حماس أو الجهاد الإسلامي” -حسب نوير- رغم أنّ أيّا من هذه الادعاءات لم يثبت حتى الآن.

– تزامن ترشيح إسرائيل “وكالة المعونة الأمريكية” لتحلّ محل الأونروا في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب -وفق الإعلام العبري- تزامنا مع زيارة مديرتها سامانثا باور وإعلانها أنّ المؤسسة ستحوّل مبلغ 53 مليون دولار إلى منظمات الإغاثة التي وصفتها بـ”الموثوقة”، ومنها برنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة دون أن تقدّم أيّ دعم مادي للأونروا.

استهداف تاريخي

يفهم مما سبق أنّ الحملة التشويهية ضد الأونروا تتطابق مع ردة الفعل الطبيعية والمتوقعة من قبل الحكومة الإسرائيلية المتطرفة على هجوم حماس، حينها توعّد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الفلسطينيين قائلا: لقد أعطيت أمرا: غزة ستكون تحت حصار تام لا كهرباء، لا طعام، لا وقود كل شيء مغلق…”.

وبالتالي يصحّ اعتبار قرار حصار أونروا، وصولا إلى إغلاقها، ضمن توصيف جريمة الإبادة الجماعية قانونيّا لكون المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تنص على أنّ إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا، ينطبق عليه مفهوم الإبادة الجماعية.

وتنص المادة 55 و59 على ضرورة تموين السكان بالمؤن الغذائية وألّا تحول الدول دون وصول الإمدادات الغذائية، والسماح لعمليات الإغاثة لمصلحة السكان.

كما أشار نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والقاعدة 156 من القانون الدولي الإنساني العرفي، إلى أنّ الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني تشكّل جرائم حرب. ويقع ضمنها استخدام تجويع المدنيين أسلوبا من أساليب الحرب، بحرمانهم من أشياء لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك إعاقة تزويدهم بمؤن الإغاثة.

وهذه في الواقع لم تكن المرّة الأولى التي تدفع فيها أمريكا وإسرائيل نحو قتل اللاجئين الفلسطينيين جماعيّا، على التوازي مع إبادتهم المستمرة في غزّة وكلّ فلسطين، عبر استهداف “الأونروا”، المقصود بالطبع هو اللاجئ الذي يمثّل إثباتا على لا شرعية الاحتلال، ونقيضا واقعيّا للرواية الصهيونية، التي هيمنت طويلا على العالم.

وقد جرت عشرات المحاولات، ومنذ خمسينيات القرن الماضي، ربما لتوظيف الأونروا أداةً للتوطين، وعندما فشل هذا الجهد باتت المحاولات تنصبّ على شيطنة الأونروا ومحاولة إنهائها وتجفيف مواردها المالية واتهام عامليها بخرق الحيادية المفروضة على موظفي الأمم المتحدة، والتركيز المجنون على مضامين (الكراهية) و(العنف) المشمولة -حسب زعمهم- بالمنهاج الفلسطيني الذي تعتمده الأونروا في مدارسها بغزة والقدس والضفة الغربية والذي ينهل منه أكثر من 300 ألف طالب وطالبة من أصل نصف مليون ويزيد، يدرسون بمدارس الأونروا داخل فلسطين المحتلة والأردن وسوريا ولبنان.

عبر عقود نجحت هذه المحاولات في إخافة الأمناء العامين ولجمهم، الذين تعاقبوا على سدة الأمم المتحدة، ولجمت المفوضين العامين الذين توالوا على قيادة الأونروا. ومن جابههم ووقف أمام محاولات الترهيب والتدجين منهم شنّت عليهم الحرب، كما حصل مع بيتر هانسن في أواخر القرن الماضي؛ لانتقاده ما قاموا به من تدمير ممنهج لمخيّم جنين بالضفة الغربية وإجراءاتهم ضد سكان غزة، ولمواقفه الإنسانية المشرّفة حينذاك والتي انتهت بإقصائه والإعلان عنه شخصا غير مرغوب فيه.

وقبل سنوات قليلة تكرّر المشهد مع المفوض العام السابق بيير كرهنبول الذي وقف بشجاعة وثبات يحسبان له أمام قرار الرئيس الأمريكي السابق ترامب بنقل سفارة بلده إلى القدس، وإيقاف المساعدات المالية كافة للأونروا التي تقدّر بنحو 300 مليون دولار سنويا، تمهيدا لإضعاف مواردها المالية.

وأطلق مقابل ذلك حملة دولية ناجحة سمّيت: “الكرامة لا تقدّر بثمن”، ووقف بحزم أمام محاولات إنهاء الأونروا حينها، ومحاولات إنهاء وجودها في مدينة القدس بالتّحديد، وانتهى به المطاف مجبرا على الاستقالة بعدما تمّ تلفيق تهم “جنسيّة” و “سوء إدارة” ضدّه، وهو عنها ومنها براء.

ولم يكن قرار قطع التمويل عن الأونروا مفاجئا لوسائل الإعلام الأمريكية لأنه جاء بعدما كشفت مجلة “فورين بوليسي” في أوت 2018 عن رسائل بريد إلكتروني مسرّبة، توضّح كيف ضغط صهر ترامب ومبعوثه إلى الشرق الأوسط جاريد كوشنر على مسؤولين آخرين في الإدارة للانخراط في جهد جدّي للتضييق على الأونروا.

وقعت الأونروا في ضائقة مالية جراء إجراءات ترامب بالنظر إلى أنّ المساهمة الأمريكية (360 مليون دولار) في موازنة الأونروا تشكّل ثلث وارداتها السنوية. ولم ينته هذا الكابوس إلّا بإعلان فوز جو بايدن خصم ترامب اللدود في منصب الرئاسة في نوفمبر 2020، مما دفع المدير العام للأونروا الإيطالي فيليب لازاريني إلى المسارعة بالتصريح في تغريدة “تهانينا.. مبروك من الأونروا للرئيس المنتخب بايدن ونائبته كامالا هاريس، نأمل كثيرا العمل معا، واستئناف التقليد الأمريكي القديم بالدعم”.

بعد 4 أشهر من تولّي بايدن السلطة، حصل ما توقعه لازاريني، حيث أمر الرئيس الأمريكي الجديد باستئناف المساعدات التي حجبها سلفه عن الأونروا. وقال وزير الخارجية الأمريكي المعيّن حديثا أنتوني بلينكن في 7 أبريل 2021 إنّ “المساعدات الأمريكية ستتضمّن 75 مليون دولار للمساعدة في الاقتصاد والتنمية في غزة، 10 ملايين دولار لبرامج بناء السلام من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو إس آيد)، و150 مليون دولار من المساعدات الإنسانية لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).

ساهم استئناف الدعم الأمريكي في التخفيف من حدة أزمة الأونروا المالية، ولم يعد حديث الساعة، لكن التحريض الإسرائيلي على الوكالة لم يتوقّف. ففي يناير من العام ذاته، نشر الباحثان بمركز بادين لدراسات سياسة الشرق الأوسط، رون شلايفر ويهودا براشين، مقالا في موقع “نيوز ون” العبري، قالا فيه إنّ “الأونروا تسعى من أجل إدامة مشكلة اللاجئين، التي طُلب منها حلّها، وبدلا من ذلك، فقد تحوّلت الأونروا تدريجيا كي تصبح منظمة قصيرة المدى شبه حكومية لمساعدة التنمية البشرية، تقدّم خدمات الرعاية الاجتماعية في مجالات الرعاية الطبية والمأوى والتعليم”.

وأشارا إلى أنّه “مع مرور الوقت، تولّت الأونروا المسؤوليات التي عادة ما تكون في أيدي المؤسسات الحكومية كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وبدأت في إدارة مخيّماتها للاجئين انطلاقا من سيادتها عليها، رغم أن معظم سكان هذه المخيمات من الفلسطينيين معروفون بنشاطهم السياسي، وصلاتهم بالمنظمات المسلّحة، ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس.

وتابع الباحثان الإسرائيليان أنّ “الشراكة قائمة بين الأونروا والمنظمات الفلسطينية منذ عقود، وانحيازها الواضح ضد إسرائيل، يزيدان الشكوك حول صورتها الذاتية بوصفها منظمة غير سياسية، وضرورة استمرار وجودها، وفي الواقع، شرعية وجودها بشكل عام، لأن الأونروا حوّلت قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى مشروع يتم عبره ضخ مبالغ كبيرة من الأموال من الأنظمة العربية وتحفيز المؤيدين الغربيين”.

خلال العامين السابقين على عملية “طوفان الأقصى” لم تجد هذه المزاعم ما يسندها أو من يتبنّاها خارج إسرائيل، رغم تطابقها مع رواية اليمين الإسرائيلي الحاكم.

ومع إعلان إسرائيل حالة الحرب يوم 8 أكتوبر 2023، وشنّ جيشها هجوما انتقاميا غير مسبوق على قطاع غزة بدءا من اليوم نفسه، واصلت الأونروا بموظفيها البالغ عددهم 13 ألفا دورها بصفتها منظمة إغاثة لفلسطينيي القطاع كافة من لاجئين ونازحين جدد. وتحوّلت باحات المستشفيات ومدارس الأونروا -التي تقدّم الخدمات الطبية والإغاثية- إلى ملاذ للفارين من عنف القصف، الذي نظمت الولايات المتحدة الأمريكية جسرا جويا لتعزيز الترسانة المستخدمة فيه.

وأفاد تقرير نشره موقع الأونروا الرسمي في نهاية يناير 2024 أنّ “ما يبلغ 1.9 مليون نازح (باتوا) يقيمون إما في 154 ملجأ تابعا للأونروا وإما بالقرب من هذه الملاجئ”. علما أنّ الحصانة الدولية الافتراضية هي التي دفعت سكان القطاع إلى اللجوء إلى مراكز الأونروا بعد تلقيهم أوامر إخلاء من جيش الاحتلال الإسرائيلي تمهيدا لقصف مخيّماتهم أو أحيائهم أو اجتياحها.

ورغم ذلك، كان النازحون واللاجئون إلى مراكز الأونروا يتعرّضون للاستهداف والقتل بواسطة المسيّرات أو القصف من البر والبحر والجو. ويفيد موقع الأونروا أنّ مبانيها والأشخاص الموجودين بداخلها تعرّضوا إلى 278 حادثة منذ بدء الحرب، بعضها شهد حوادث متعددة أثّرت في المواقع نفسها، بما في ذلك ما لا يقل عن 28 حادثة استخدام عسكري و/أو تدخّل في منشآت الأونروا. وقد تأثرت 147 منشأة مختلفة تابعة للأونروا جراء تلك الحوادث.

خلاصة القول؛ تختزل إسرائيل رؤيتها للأونروا بكونها تساهم في إدامة قضية اللاجئين، بل وتضخيمها مع زيادة عدد اللاجئين المسجّلين بها من 700 ألف شخص عام 1948 إلى 5.5 مليون شخص حاليا نظرا إلى منح أبناء اللاجئين وأحفادهم عام 1948 صفة اللاجئ.

وتعتبر تل أبيب أنّ عودة اللاجئين تمثّل تهديدا ديمغرافيا للأغلبية اليهودية في إسرائيل، وبالتالي فهي قضية غير قابلة للحلّ في أيّ مفاوضات مستقبلية مع الفلسطينيين، ولذا تدفع باتجاه دمج اللاجئين في أماكن إقامتهم؛ وبالأخص في دول الجوار.

ووسط هذه الكومة من التعقيدات يقف سكان غزة أمام مفترق طرق تترصّدهم آلة الحرب الإسرائيلية لتذيقهم المزيد من القتل والإبادة والتهجير والمجاعة، التي باتت تتهدّد

750 ألف شخص بينهم 17 ألف طفل غير مصحوبين بذويهم أو منفصلين عن والديهم ضمن قطاع معزول وصل إلى نقطة الانهيار.

         

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد