ميناء غزة.. الجوع يرسمُ خريطة الأهداف الخفيّة

2024-03-21 03:45:55 أخبار اليوم / البوابة التونسية /محمد بشير ساسي

 

  

على مدار الأشهر الستة الماضية لم تتراجع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، “قيد أنملة” عن دعمها اللاّمحدود للاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة على قطاع غزة سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا ولوجستيا، حتى بات الكثير ينظر إلى واشنطن أنها شريك بل طرف أساسي في ارتكاب أبشع جريمة في تاريخ الإنسانية…

ففي الوقت الذي كانت فيه العديد من الأصوات تناشدُ تدخلا أمريكيا لإنهاء مسلسل الدم أو على الأقل فرض هدنة لستة أسابيع يتم خلالها تبادل للأسرى قبل بداية شهر رمضان كما روجت لذلك إدارة البيت الأبيض، ما تزال حكومة بنيامين نتنياهو المتطرّفة ماضية في إراقة مزيد من الدماء ليرتفع عدّاد ضحايا المجازر الوحشية إلى أكثر من 31500 شهيد وأزيد من و73500 جريح منذ السابع من أكتوبر الماضي.

فكرة غامضة

ووسط تعثر محادثات القاهرة في الوصول إلى نتيجة ملموسة نحو التوصل إلى اتفاق تبادل الأسرى في إطار هدنة مؤقتة، ورد تل أبيب مقترح حماس المكون من 3 مراحل بوصفه بغير المنطقي، تقدّم الولايات المتحدة نفسها الطرف الحريص والضامن للجانب الإنساني في غزة التي يقترب فيها مئات آلاف الجرحى والجوعى من حافة الموت والهلاك نتيجة انعدام المستلزمات الصحية والإغاثية وكذلك الأمن الغذائي بسبب الحصار الخانق على غزة طيلة الأشهر الماضية.

في خطوة بدت كأنّها التفاف على العراقيل التي يضعها نتنياهو، اغتنم الرئيس بايدن، فرصة الخطاب السنوي عن حالة الاتحاد ليعلن أن بلاده المدفوعة بالتدهور السريع في الأزمة الإنسانية، تعمل على إنشاء ميناء بحري مؤقت في غزة خاصة مع تدمير جيش الاحتلال الميناء الوحيد فيها، وعدم نجاعة آلية إسقاط المساعدات جوا وتعثر دخولها برا.

هذه الفكرة الغامضة أثارت عدة تساؤلات بشأن آليات تنفيذها والأهداف الحقيقية الكامنة وراءها ولماذا سيكون إنشاؤه “أسهل” من إدخال المساعدات برا من خلال المعابر المؤدية إلى القطاع، والمغلقة بقرار سياسي؟!

آلية عمل الميناء

وفق المخطط المُعلن ينطلق الممر من جزيرة قبرص، حيث ترسو سفن المساعدات وتخضع لتفتيش دقيق تشرف عليه إسرائيل وتقرّر ما الذي يسمح بإرساله إلى القطاع. وتسلك بعدها السفن طريقا إلى الميناء العائم، الذي يعد أبرز أركان الممر البحري -الذي تعهدت واشنطن ببنائه وإسرائيل بحمايته- وهو عبارة عن منصة في البحر الأبيض المتوسط وسيتولى قرابة ألف جندي أمريكي العمل على بنائه، وسيستغرق البناء نحو 60 يوما.

ولم يتم تحديد الموقع الدقيق لمكان الرصيف البحري، لكن تقديرات تشير إلى أنه سيُبنى على بعد نحو 600 متر قبالة شواطئ غزة بما يتيح لسفن الشحن الاقتراب منه، حيث المياه العميقة تسمح للسفن الكبيرة بالاقتراب دون تهديد سلامة الملاحة. وبعد وصول السفن، يتم إفراغ الحمولة في الميناء، لتنقل إلى غزة، بينما قالت وزارة الدفاع الأمريكية إن الميناء سيرتبط بنقطة برية على شاطئ القطاع عبر جسرين، بطول نحو 550 مترا لكل منهما..

على أرض الواقع ما تزال تفاصيل خطة الميناء غير مكتملة وفق مراقبين، إذ تواجه 3 تحديات، الأول يتمثل في تحديد ممرات آمنة لتوزيع المساعدات بعد إيصالها إلى الشاطئ سواء شمال قطاع غزة أو الوسط أو الجنوب، مع ضمان عدم تعرضها للاستهداف من قبل قوات الاحتلال.

ويكمن التحدي الثاني في أمن شاحنات المساعدات، لا سيما عند دخولها مناطق تصنفها إسرائيل على أنها مناطق اشتباك، علما أنه سبق لقوات الاحتلال أن استهدفت شاحنات إغاثة تتبع للأمم المتحدة تم تنسيق دخولها ومسارات رحلتها مع قوات الاحتلال وفق مسؤولين أمميين.

ويتمثل التحدي الثالث في الجهة التي ستتولى توزيع المساعدات، حيث تتحدث الولايات المتحدة عن انفتاحها لبحث عدة سيناريوهات، بدءا من شركات أمن خاصة، مرورا بمن تسميهم رجال أعمال أو شركات فلسطينية.

خطة قديمة

خلافا لما هو دارج ومعتمد حيال السجال بين واشنطن وتل أبيب، في ما يتعلق بسير الحرب، وصفقة التبادل، ووقف مؤقت لإطلاق النار، لم يخرج أي من الوزراء في حكومة الطوارئ ضد هذه الخطوة الأمريكية على وجه التحديد، على أساس أن القضية الإنسانية، التي تسبب ضغطا شديدا على إسرائيل في العالم، هي مسألة حاسمة بالنسبة إلى الحرب.

ووسط التّرحيب الإسرائيلي الخجول بمشروع بايدن، اختار وزير الخارجية يسرائيل كاتس أن يستذكر مبادرته في العقد الماضي، التي جددها خلال الحرب على غزة، الهادفة إلى إقامة ميناء منظم على جزيرة صناعية قبالة سواحل غزة، وهو الموقف الذي يعكس التناغم الإسرائيلي الأمريكي حيال مشروع الميناء العائم، وذلك وسيلة للسيطرة على توزيع المساعدات الإنسانية.

ويؤكد تقرير نشرته صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية نقلًا عن مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى، أن “خُطة إنشاء طريق بحري إلى غزة عبر قبرص، بدأها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالتعاون مع الرئيس الأمريكي جو بايدن”، بعد أسبوعين من اندلاع الحرب، أي قبل خمسة أشهر من قرار الرئيس بايدن.

ففكرة نتنياهو وفق الصحيفة كانت خطة متكاملة بدأ العمل على تنفيذها مبكرًا، فقد عرض الخطوط الرئيسية لهذه الاستراتيجية على الرئيس القبرصي خريستودوليديس، نهاية أكتوبر الماضي، بعد حديثه إلى بايدن. فنتنياهو تحدث إلى بايدن ثانية في 19 يناير الماضي في الخطة نفسها، واقترح عليه تشكيل فريق لاستكشاف الإمدادات البحرية عبر قبرص، مؤكدًا إجراءَ فحص شامل لجميع البضائع التي سترسل إلى قطاع غزة.

وقد بثّت وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية في 20 نوفمبر تصريح الرئيس القبرصي الذي يبدي فيه استعداد بلاده فورًا لشحن كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية إلى غزة وسيلة مجدية لتكملة تدفق المساعدات بشكل كبير إلى القطاع عبر الحدود المصرية.

وقال إن التخطيط لهذا الممر قد اكتمل بشكل أساسي، ويمكن أن تبدأ المساعدات في التدفق عندما يتم إعلان وقف القتال، وذكر أنه كان على اتصال منتظم مع بنيامين نتنياهو بشأن الاقتراح، وأن الجميع يدعم هذه المبادرة: الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

يُفهم مما سبق ذكره أن ما يقوم به بايدن ما هو إلا محاولة جديدة للمراوغة في سعيه إلى إيجاد توازن في حرب غير متوازنة في الشرق الأوسط. كما يكرر بايدن أنه “أول رئيس صهيوني للولايات المتحدة” بدعمه الكامل وغير المشروط لإسرائيل، إلى جانب أنها حسابات سياسية انتخابية داخلية يخشى معها بايدن أن تُكلفه فرصة البقاء في البيت الأبيض 4 سنوات جديدة.

وتشير شواهد عديدة إلى أن بايدن أصبح محبطا بشكل متزايد من تحدي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمناشداته لبذل المزيد من الجهد لحماية المدنيين في غزة، لكنه ما يزال يعارض وقف إمداد إسرائيل بالذخائر أو استغلال اعتمادها الكامل على الولايات المتحدة للتأثير في مسار القتال.

 أهداف غير معلنة

لقد عزّز إخراج قرار بايدن على هذا النحو وفي هذا التوقيت بالتحديد الآراء القائلة بوجود بنك أهداف صهيو-أمريكية غير معلنة تتجاوز حدود مأساة حرب الإبادة الجماعية الدائرة في قطاع غزة، وتتجاوز حدود الأهداف المعلنة للحرب، والمتعلّقة بالقضاء على حماس، والإفراج عن الأسرى والمختطفين، وفي هذا السياق يمكن الوقوف على جملة من النقاط التالية:

- التدخّل الأمريكي المباشر في قطاع غزة بغطاء مدني إغاثي هو مقدّمة للعب دور أمني وسياسي في القطاع، لتعويض العجز الإسرائيلي عن الاتصال بالمدنيين.

- مسارعة بايدن في بناء الميناء بسبب قلقه مما سينتج من اجتياح إسرائيلي لمدينة رفح جنوبي القطاع ومن عدم إنهاء الكارثة الإنسانية بغزة، الأمر الذي سينعكس على نتيجة الانتخابات في الولايات المتحدة.

- فكرة الميناء تعكس قناعة أمريكية – إسرائيلية بأن المقاومة الفلسطينية لن ترضخ لهم طيلة مسار المفاوضات.

- إلغاء أيّ دور لمعبر رفح البري على الحدود مع مصر، فإنشاء هكذا ميناء سيخرج معبر رفح عن الخدمة الذي يعتبر المدخل الرئيسي لأسلحة حركة حماس حسب الرؤية الإسرائيلية.

- استفادة الجانب المصري من هذه الخطوة عبر تحييد دور القاهرة في ما يخص ملف المساعدات، ورفع الحرج عن النظام المصري الذي يتعرض للنقد بسبب إغلاق معبر رفح.

- انسجام فكرة الميناء الأمريكي العائم مع مشروع “جزيرة اصطناعية” بمساحة 8 كيلومترات مربعة قبالة شواطئ غزة لنقل نحو نصف مليون فلسطيني من القطاع، الذي عرضه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، خلال اجتماع وزراء خارجية الدول الأوروبية في بروكسل في يناير/كانون الثاني الماضي.

- تشييد الميناء لا علاقة له بالمساعدات الإنسانية التي يحتاجها الفلسطينيون في القطاع المحاصر، “وإنما وضع اليد على سواحل غزّة الغنية بالثروات الباطنية خاصة الغاز.

فوفق تقرير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) 2019 فإن الأرض الفلسطينية المحتلة تقع فوق مكامن كبيرة من الثروة النفطية والغاز الطبيعي في المنطقة (ج) من الضفة الغربية المحتلة وساحل البحر الأبيض المتوسط قبالة قطاع غزة. ومع ذلك، ما يزال الاحتلال يمنع الفلسطينيين من تطوير حقول الطاقة لاستغلال هذه الثروات والاستفادة منها… الاكتشافات الجديدة للنفط والغاز الطبيعي في حوض المشرق العربي، تبلغ 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي بقيمة صافية تبلغ 453 مليار دولار (بأسعار 2017) و1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج بقيمة صافية تبلغ حوالي 71 مليار دولار”.

 يحمل المشروع الأمريكي في طياته كثيرا من الرسائل، لعل أبرزها أن إدارة الرئيس جو بايدن غير معنية بممارسة ضغوط كبيرة على نتنياهو وفرض أجندتها على إسرائيل، وسط غياب أي دور عربي وإسلامي يمكن أن يشكل ضغطا على واشنطن لإغاثة غزة. وفي هذا الإطار وضعت منظمة أطباء بلا حدود الإصبع على الداء حين اتهمت الولايات المتحدة بمحاولة حجب الأنظار عن المشكلة الحقيقية، المتمثلة في الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع”.

وأوضحت المنظمة أن المشكلة “ليست لوجستية، بل سياسية، وعلى الولايات المتحدة أن تصر على الوصول الفوري للمساعدات الإنسانية من خلال المعابر والممرات الموجودة، بدلا من الالتفاف حول المشكلة. والطريقة الوحيدة المضمونة لزيادة وصول المساعدات العاجلة هي إعلان وقف إطلاق النار في غزة”.

كما دخل المقرر الأممي الخاص المعنيّ بالحق في الغذاء مايكل فخري، المسار ذاته واصفا الاقتراح الأمريكي بالخبيث، مؤكدا أنه لم يطلب أحد من أمريكا رصيفا بحريا لإيصال المساعدات وفي الوقت ذاته ترسل قنابل وذخائر إلى الاحتلال الإسرائيلي.

    

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد