محركات استمرار الصراع المسلح الراهن في اليمن

2024-02-15 01:38:08 أخبار اليوم / د. إسماعيل علي السهيلي - مركز المخا للدراسات الاستراتيجية

  

ملخَّص تنفيذي:

يبدو أنَّ إنهاء النزاع المسلح في اليمن لا يزال بعيد المنال نظرًا لوجود العديد مالتي تدفع باتِّجاه استمراره، وستعمل هذه الورقة البحثية على استقصاء وتحليل أهمِّ تلك المحرِّكات، والتي يأتي على رأسها الأيديولوجية المتطرِّفة لميليشيا الحوثي، والقائمة على ما يُسمَّى بالاصطفاء والاختيار الإلهي، وأجنداتها للسيطرة على الحكم والمجتمع، مِن خلال تغذية النزاع المسلَّح تحت مسمَّيات عقائدية، والاستحواذ على المواقع القيادية في مؤسَّسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية، وكذا التصميم على عدم الذهاب إلى تسوية سياسية شاملة قبل الهيمنة على مصادر النفط والغاز، إضافة إلى أنَّ اعتماد الميليشيات على إيران عسكريًّا وسياسيًّا وماليًّا وإعلاميًّا، جعلها مقيَّدة بالإستراتيجية الإيرانية للهيمنة على المنطقة.

وفي المقابل يمثِّل ضعف السلطة الشرعية، المعترف بها دوليًّا، (رئاسة ومجلس نوَّاب وحكومة)، محرِّكًا آخر لاستمرار النزاع المسلَّح؛ فقد فشلت هذه السلطة في تطوير نموذج حكم جيِّد في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وعجزت عن القيام بواجباتها تجاه المواطنين واحتياجاتهم. كما أنَّها تعاني بشدَّة مِن التناقض بين مكوِّناتها؛ فمجلس القيادة الرئاسي -رغم مرور أكثر مِن عام ونصف على تشكيله- لا تزال السمة الغالبة على أعضائه الانقسام والتصادم وضعف التوافق على إستراتيجية مشتركة حول القضايا المركزية، وفي صلبها وحدة اليمن، وتقاسم السلطة والموارد في المناطق الواقعة تحت سيطرته؛ كما فشل المجلس في تحقيق وحدة القيادة والسيطرة على القوَّات والتشكيلات العسكرية والأمنية التي تحت سلطة المكوِّنات المنضوية فيه، ويبدو أنَّ هذا التناقض آخذ في الاتِّساع ليمثلَّ أحد أهمَّ المحرِّكات الكامنة التي يتغذَّى عليها استمرار النزاع المسلَّح.

وفي ذات السياق، تعدُّ رؤية إيران الإستراتيجية لليمن -في مشروعها للهيمنة على المنطقة- مِن أهمِّ محرِّكات استمرار النزاع الراهن؛ فقد توالت تصريحات المسئولين الإيرانيين حول أنَّ اليمن يمثِّل جزءًا مِن العمق الإستراتيجي الإيراني، ويرى الإيرانيُّون أنَّ نفوذهم توسَّع مِن خلال ميليشيا الحوثي إلى مناطق حيوية جديدة، فصار لهم وجود عسكري على سواحل البحر الأحمر، وقرب باب المندب، وصارت إيران أكبر وأوسع ممَّا تحدِّده الخرائط الجغرافية، كما أنَّ ميليشيا الحوثي أسهموا في ترجيح كفَّتهم في مواجهة خصومهم الإقليميِّين، خاصَّة السعودية، ومِن المتوقَّع أن تعمل إيران على استمرار النزاع المسلَّح، وتقديم مزيد مِن الدعم اللَّازم لذلك.

ويعدُّ التنافس والصراع الإقليمي والدولي للهيمنة على اليمن وموقعه الإستراتيجي أحد أهمِّ محرَّكات استمرار النزاع الراهن؛ فاليمن يتحكَّم بمضيق باب المندب، أحد أهمِّ الممرَّات المائية في العالم، ويطلُّ على أربع مناطق بحرية مهمَّة: البحر الأحمر، وخليج عدن، وبحر العرب، والمحيط الهندي، إضافة إلى العديد مِن الجزر التي تضاعف الأهمية الإستراتيجية، وقد أدَّى النزاع الراهن إلى سيطرة قوى دولية وإقليمية على هذه السواحل والجزر، وهو ما يؤدِّي لاستمرار النزاع المسلَّح في اليمن.

توطئة:

مع مرور الربيع العربي باليمن، في فبراير 2011م، ساهمت المستويات العالية مِن الفساد المالي والإداري، والوضع الاقتصادي السيِّئ في جذب قطاعات واسعة مِن الشعب للانضمام للاحتجاجات والمطالبة برحيل النظام الحاكم، وهو ما أدى إلى اضطرابات وأعمال عنف واسعة، ورغم تسوية ذلك النزاع في إطار "المبادرة الخليجية"، وآليَّتها التنفيذية، حيث أفضت إلى انتقال السلطة لنائب الرئيس، عبدربه منصور هادي، وتبع ذلك مؤتمر حوار وطني شامل، شاركت فيه ميليشيا الحوثي، إذ تبنَّت مقاربة زاوجت فيها بين المشاركة السياسية في مؤتمر الحوار والعمل العسكري ميدانيًّا مِن خلل التوسُّع مِن معقل الميليشيات في محافظة صعدة -شمالًا- إلى المحافظات والمناطق المجاورة لها، كالجوف وحجَّة. وفي ظلِّ ضعف الدولة المركزية والاستياء الشعبي مِن أداء حكومة الوفاق الوطني والرئيس "هادي"، ومع طموحات الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، في العودة إلى السلطة، استغلت الميليشيات هذه المعطيات في التصعيد عسكريًّا، حتَّى تمكَّنت -في 21 سبتمبر 2014م- مِن اقتحام العاصمة صنعاء، وإسقاط المقار والمؤسَّسات الحكومية ومعسكرات الجيش والأمن بأيديهم، ومِنها انطلقوا لاجتياح بقيَّة محافظات ومناطق الجمهورية اليمنية.

فتح هذا الحدث بابًا للصراع المسلَّح الدامي، والذي لا يزال مستمرًّا حتَّى اليوم، حتَّى أخذ أبعادًا إقليمية ودولية مؤثِّرة. فقد صرَّح مسئولون إيرانيون بشأن أنَّ إيران أصبحت تسيطر على أربع عواصم عربية، وأنَّ ميليشيا الحوثي هم نتاج الثورة الإيرانية.

وقامت الميليشيات في 12 مارس 2015م، بإجراء استعراض عسكري، ومناورات عسكرية، ضمَّت آلاف المقاتلين، وشملت مختلف الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة الثقيلة التي استولوا عليها مِن معسكرات الجيش اليمني. وقد جرت هذه المناورات في منطقة البقع بمحافظة صعدة، على القرب مِن الحدود السعودية. كما قامت ميليشيا الحوثي، والقوَّات الموالية للرئيس السابق "صالح" المتحالف معهم، بشنِّ غارات على القصر الرئاسي في مدينة عدن، عقب فرار الرئيس "هادي" مِن صنعاء إلى عدن.

تلك التصريحات وهذه المناورات سرَّعت مِن وتيرة استدعاء تدخُّل "التحالف العربي"، بقيادة السعودية، في 26 مارس 2015م، والإعلان عن عملية "عاصفة الحزم" العسكرية؛ تحت ذريعة طلب الرئيس "هادي" مِن قادة دول مجلس التعاون الخليجي التدخُّل عسكريًّا للقضاء على الانقلاب واستعادة الشرعية. وهو ما دفع الرئيس "هادي" للهروب عبر سلطنة عمان، إلى العاصمة السعودية (الرياض)، لتكون تاليًا مقرًّا له ولحكومته المعترف بها دوليًّا.

بنهاية عام 2023م، وبعد أكثر مِن تسع سنوات مِن الانقلاب والحرب تمرُّ اليمن بواحدة مِن أكبر الأزمات الإنسانية في العالم؛ فهناك نحو (12.6) مليون يمني بحاجة إلى شكل مِن أشكال المساعدة الإنسانية، ويُعاني 80% مِن السكَّان مِن أجل الوصول إلى الغذاء، ومياه الشرب الآمنة، والخدمات الصحِّيَّة الكافية.

كما أنتجت الحرب ملايين النازحين والمهجَّرين داخل اليمن وخارجه، وتسبَّبت بمقتل (377) ألف شخص حتَّى عام 2021م، بحسب تقديرات برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائي؛ وتدمَّرت البنية التحتية الحيوية للبلد، بما في ذلك النقل والصحَّة والتعليم والمياه والكهرباء والاتِّصالات، لتعود اليمن بذلك عقودًا إلى الوراء.

ورغم دخول أطراف الصراع في مفاوضات سلام منذ منتصف عام 2015م، والتي عُرفت بمفاوضات "جنيف"، ومرورًا بمحادثات الكويت، ثمَّ "اتِّفاق ستوكهولم"، وصولًا لتوقيع اتِّفاقيَّات الهدنة القائمة اليوم، إلَّا أنَّه يبدو أنَّ إنهاء الحرب لا زال بعيد المنال نظرًا لوجود العديد مِن المحرِّكات التي تعمل على استمرار الصراع.

وحيث أنَّ البيئة اليمنية عمومًا مولِّدة للصراع مِن خلال عوامل هيكلية ذات وجود ممتدٍّ تاريخيًّا، تتطلَّب دراسات متعدِّدة سياسية واقتصادية واجتماعية، فإنَّ هذه الورقة البحثية ستكتفي بتناول أهمِّ العوامل التي تحرِّك دورة العنف والصراع المسلَّح الراهن وتضفي عليه سمة الامتداد والاستمرارية.

المحرِّك الأوَّل: الأيديولوجيا الراديكالية لميليشيا الحوثي وأجندتها للسيطرة على المجتمع:

تنطلق ميليشيا الحوثي مِن ميراث أيديولوجي راديكالي، يزعم أنَّ تولِّي السلطة والحكم بعد وفاة النبي (محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم) محدَّد، في كلِّ زمان، بذرِّية الحسن والحسين ابني الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، مِن فاطمة ابنة الرسول، وهذا ما أعادت التأكيد عليه الوثيقة الثقافية والفكرية الصادرة رسميًّا عن ميليشيا الحوثي، في 13 فبراير 2012م؛ وزادت على ذلك بأنَّ هذا الحقَّ يقوم على أساس الاصطفاء والاختيار الإلهي الدائم إلى قيام الساعة.

يمثِّل هذا العامل الأيديولوجي أهمَّ محرِّكات استمرار الصراع المسلَّح، فهو أساس نشأة ميليشيا الحوثي، ومرجعية سياساتها وممارساتها وأجنداتها في السيطرة على الدولة والمجتمع والمعتقد الديني؛ ويرتبط به ويتفرَّع عنه محرِّكات عدَّة مِن أهمِّها التالي:

1- أجندة طائفية سياسية: فالميليشيات تغذِّي الصراع المسلَّح تحت مسمَّيات عقائدية؛

وبحسب المسئول الإعلامي في نقابة المعلِّمين اليمنيين فإنَّ ميليشيا الحوثي أحدثوا تغييرات في المناهج الدراسية الحكومية الخاضعة لسيطرتهم حملت بعدًا طائفيًّا يهدف لتكريس العنصرية، وأفضلية الحوثي وسلالته على بقيَّة اليمنيين، وهو ما يعني في النهاية إلغاء لحقوق الإنسان، كالحرية والعدالة والمواطنة المتساوية، وإعطاء مبرِّرات دينية طائفية تشجِّع الطلبة على الانخراط في الحرب، واعتبارها جهادًا وتضحية في سبيل الله.

مِن جهة أخرى، يجبر ميليشيا الحوثي الموظَّفين العموميين والشخصيات الاجتماعية على حضور دورات ثقافية يخضعون فيها لعملية إعادة تأهيل فكري، ويُعلَّمون فيها الأيديولوجية الحوثية، مع هدم الأفكار السابقة عن الميليشيات، ويدفع لتبنِّي شعارات ومعتقدات الميليشيات والترويج لها.

2- الاستحواذ على المواقع القيادية: في مؤسَّسات الدولة، المدنية والعسكرية والأمنية، وذلك مِن خلال توجُّه إقصائي يستبعد الجديرين مِن غير السلالة الهاشمية الموالية للجماعة، ومِن عير أتباع المذهب الزيدي، وتعيين بديل عنهم أفرادًا ينتمون إليهم سلاليًّا، ثمَّ بدرجة ثانية المخلصين مِن أتباعهم مِن خارج السلالة، وبما يضمن حصر عمليَّة صنع القرار السياسي والإداري في اليمن بأيديهم. ويمثِّل عدم المساواة والشعور بالغبن والإقصاء محرِّكًا يُغذِّي الصراع المسلَّح.

3- التوسُّع والسيطرة: وذلك بالتركيز على الاستيلاء على محافظة مأرب، حيث يوجد بها مقرُّ وزارة الدفاع ورئاسة الأركان، وحقول النفط والغاز، بغية الانطلاق مِنها نحو حقول الغاز والنفط في شبوة وحضرموت. لذلك تكثِّف ميليشيا الحوثي ضغوطها العسكريَّة على مأرب، حيث دارت المعارك الأكثر دموية في اليمن. ويبدو أنَّ الميليشيات تهدف إلى عدم الذهاب إلى تسوية سياسية شاملة ومستدامة قبل الهيمنة على حقول النفط والغاز في مأرب، وبحيث تكون بأيديهم مصادر القوَّة والثروة في معظم مناطق اليمن.

4- الارتباط الوثيق بإيران: فقد تمكَّنت إيران مِن نسج روابط وثيقة ومعقَّدة بميليشيا الحوثي، حتَّى صاروا معتمدين عليها عسكريًّا وسياسيًّا وماليًّا وإعلاميًّا ولوجستيًّا. وتشير تقارير عدَّة إلى أنَّ إيران كانت في فترة ما تدير القرارات الإستراتيجية للحوثيين مِن خلال سفيرها لديهم، حسن إيرلو. ولا تتردَّد ميليشيا الحوثي عن إظهار هذه العلاقة؛ ففي ظلِّها يبرِّرون التدخُّل الإيراني والدور العسكري المعلن الذي قام به "حزب الله" اللبناني في الصراع في اليمن.

5- ميلان ميزان القوى العسكري والسياسي لصالح ميليشيا الحوثي: حيث تفوق قدرات الميليشيات العسكرية قدرات خصومها بكثير، ما يجعلها تتصرَّف مِن منطلق غرور القوَّة، ويجعل خصومها يستحضرون سجلَّ الميليشيات الحافل بعدم الامتثال للاتِّفاقات التي يبرمونها، ومِن ثمَّ يصعب إنجاز تسوية سياسية في هكذا وضع، فمِن غير المتوقَّع قبول خصوم ميليشيا الحوثي بما يلوح في الأفق مِن تسويات سياسية تُفضي إلى سلام أعرج. ويبدو أنَّ أيَّ تسوية مجحفة ستكون محفوفة بالتهديدات ومخاطر استمرار الصراع المسلَّح.

المحرِّك الثاني: ضعف الحكومة الشرعية وتناقض مكوِّناتها:

في الوقت الذي تتَّسم فيه ميليشيا الحوثي بالقوَّة والتماسك والإنجاز تُعاني السلطة الشرعية المعترف بها دوليًّا (رئاسة ومجلس نوَّاب وحكومة) مِن ضعف واضح في القيام بواجباتها الدستورية، وتناقض صارخ في أجندات الأطراف المنضوية فيها، وهو ما يطيل مِن أمد الصراع، ويمنحه محرِّكًا إضافيًّا للاستمرار. فمنذ خروجه مِن اليمن اختار الرئيس السابق، عبدربِّه منصور هادي، طريقة غير نضالية لاستعادة الدولة، حيث اعتمد طريقة مريحة له ولمن حوله في إدارة الأمور، وصدَّر "التحالف العربي" إلى واجهة السياسات المتَّخذة في اليمن. وهي طريقة لم تثمر سوى تجذُّر الانقلاب، وتوسُّع سيطرته على مزيد مِن الأراضي، وافتقار السلطة الشرعية إلى وجود حقيقي في معظم الأرضي المحرَّرة، حيث صارت السيطرة الفعلية فيها لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي"، المدعوم سياسيًّا وعسكريًّا وماليًّا مِن الإمارات العربية المتَّحدة، والذي يعمل وبشكل معلن وبالقوَّة المسلَّحة لتأسيس دولة انفصالية في جنوب اليمن. صاحب هذا الوضع فشل مؤسَّسات الدولة في توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، مِن مرتَّبات منتظمة، وخدمات الكهرباء والمياه والاتصالات والصرف الصحِّي، وخدمات الصحَّة والتعليم، ومعالجة تحدِّيات المعيشة اليومية، فضلًا عن الأمن الذي بات همًّا يوميًّا للمواطن في كثير مِن المناطق التي تخضع لسلطة الشرعية مسمَّى (باستثناء نسبي في محافظتي مأرب وحضرموت).

هذه العوامل أدَّت -مع مرور الوقت- إلى تدنِّي ثقة اليمنيين بالحكومة الشرعية، وتراجع الدعم السياسي الشعبي الواسع الذي كانت تتمتَّع به، وصار ينظر إليها على أنَّها أخفقت في تطوير نموذج حكم جيِّد في المناطق الخاضعة لها.

مِن جهة أخرى، زاد مِن ضعف الحكومة الشرعية اتِّساع وتعاظم التناقض بين مكوِّناتها، وظهور كيانات موازية لها تمتلك السلطة والوجود على الأرض، فرغم أنَّ "اتِّفاق الرياض" الموقَّع بين الحكومة الشرعية و"المجلس الانتقالي الجنوبي"، في 5 نوفمبر 2019م، قد نصَّ على إنهاء الانقسامات والصراع على السلطة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتفعيل كافَّة سلطات ومؤسَّسات الدولة، وإعادة تنظيم القوَّات العسكرية تحت قيادة وزارة الدفاع، وإعادة تنظيم القوَّات الأمنية تحت قيادة وزارة الداخلية، إلَّا أنَّ "المجلس الانتقالي" صار صاحب السلطة في معظم مدن ومحافظات جنوب اليمن، وعمل على خلق بيئة أمنية مهدَّدة وغير قابلة لوجود السلطة الشرعية، في العاصمة الموقَّتة عدن، مِن خلال شنِّ هجمات مسلَّحة على القوَّات الحكومية، وهو ما أدَّى إلى خروج كثير مِن المناطق المحرَّرة في جنوب اليمن عن سلطة الحكومة، وهو ما أسفر عن وضع جديد أصبح فيه "المجلس الانتقالي" يمارس المهام والوظائف السيادية المناطة بالحكومة، وصار له تشكيلات عسكرية ضاربة تعمل بشكل مستقل عن القوَّات المسلَّحة اليمنية، وتظهر في أنشطتها العمليَّاتية وزيها العسكري بشكل صارخ كقوَّات انفصالية عن الجمهورية اليمنية، وأكثر ارتباطًا بدولة الإمارات التي تسيطر مِن خلالها على موانئ وسواحل اليمن مِن المكلَّا شرقًا وحتَّى باب المندب غربًا.

في أبريل 2022م جرى تشكيل مجلس قيادة رئاسي ليحلَّ بديلًا عن الرئيس السابق "هادي" ونائبه، ليكون ممثِّلًا لمختلف مكوِّنات الشرعية. تكوَّن المجلس مِن رئيس وسبعة نوَّاب محسوبين على تلك المكوِّنات، والتي تمثِّل جماعات سياسية وعسكرية متنافرة ومتصادمة، تتقاسم السعودية والإمارات النفوذ عليها. ورغم مرور أكثر مِن عام ونصف على تشكيل مجلس القيادة الرئاسي لا زالت السمة الغالبة على أعضائه الانقسام والصِّدام، فالمجلس -في حقيقة الأمر- سلطات متعدِّدة، وأعضاؤه شركاء متشاكسون، يفتقدون إلى إستراتيجية مشتركة حول القضايا المركزية، بما في ذلك وحدة اليمن، وإدارة السلطة والموارد في المناطق الواقعة تحت سيطرته، مِن نفط وغاز وموانئ ومنشآت حيوية، وكذلك الإدارة المحلِّية للمحافظات والمدن.

وعوضًا عن دمج جميع التشكيلات العسكرية والأمنية تحت قيادة وزارة الدفاع ورئاسة هيئة الأركان ووزارة الداخلية، وتحت سلطة رئيس المجلس باعتباره القائد الأعلى للقوَّات المسلحة، جرى إنشاء قوَّات عسكرية بمسمَّيات جديدة. ففي يناير الماضي، أعلن رئيس مجلس القيادة الرئاسي، د. رشاد العليمي (والذي لا يمتلك قوَّات عسكرية تابعة له أسوة ببقية أعضاء المجلس)، عن إنشاء تشكيل عسكري جديد، أطلق عليه "قوَّات درع الوطن"، يخضع لإمرته مباشرة، باعتباره احتياطي القائد الأعلى للقوَّات المسلَّحة.

وفي ظلِّ عجز المجلس عن تحقيق وحدة القيادة والسيطرة على القوَّات والتشكيلات المسلَّحة التابعة لمكوِّناته المنضوية تحته مِن المحتمل اندلاع مواجهات عسكرية بين هذه القوى والتشكيلات.

مِن جهة أخرى، رافق التناقض القائم بين مكوِّنات مجلس القيادة الرئاسي، وعدم قدرته على الحكم كفريق واحد، مزيد مِن الضعف في سلطات الدولة، تمثَّل في تهميش مجلس النوَّاب وهو آخر مؤسَّسة دستورية منتخبة شعبيًّا؛ حيث جرى تعيين "هيئة التشاور والمصالحة"، وهي هيئة غير منتخبة مُنحت صلاحيات هي بالأساس مِن اختصاصات مجلس النوَّاب. ورغم أنَّ مجلس النوَّاب عانى مِن التهميش سابقًا إلَّا أنَّه حاليًّا صار شبه معطَّل عن ممارسة مهامه المنصوص عليها في دستور الجمهورية اليمنية.

كلُّ هذه العوامل ساهمت في إضعاف السلطة الشرعية (رئاسة ومجلس نوَّاب وحكومة)، وصارت قطاعات واسعة مِن اليمنيين تشعر بعدم قدرة هذه الحكومة على إنهاء الانقلاب واستعادة الشرعية؛ بل أصبحت تُعاني مِن ضعف كبير في المحافظة على الوحدة والسيادة الوطنية وسلامة أراضي الجمهورية اليمنية.

المحرِّك الثالث: الرؤية الإستراتيجية الإيرانية لليمن في مشروع الهيمنة على المنطقة:

مكَّن فائض القوَّة التي راكمتها إيران خلال العقود الماضية مِن تعزيز أدوات تدخُّلها الإقليمي استنادًا إلى مقولات راسخة في عقلها الإستراتيجي مِن قبيل: تصدير الثورة، والعمق الإستراتيجي؛ ففي خطابه، الذي يُعدُّ وثيقة توجيهية لكافَّة مؤسَّسات صنع السياسة الخارجية الإيرانية، حدَّد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، في مايو الماضي، أثناء لقائه بمجموعة مِن الدبلوماسيين الإيرانيين، ستَّ محدِّدات للسياسة الخارجية خلال المرحلة المقبلة، كان أحدها تقوية الحكومات والمجموعات المتحالفة والمؤيِّدة لإيران، وتوسيع العمق الإستراتيجي للبلاد.

وفي هذا السياق، ينظر القادة الإيرانيون لليمن على أنَّها جزء مِن العمق الإستراتيجي لبلدهم؛ كما صرَّح بذلك الرئيس الإيراني الحالي، إبراهيم رئيسي، أثناء حملته الانتخابية، فيما اعتبر النيابي، علي رضا زاكاني، المقرَّب مِن "خامنئي"، العاصمة اليمنية (صنعاء)، بعد سقوطها بيد ميليشيا الحوثي، رابع عاصمة عربية تابعة لإيران. وهو ذات المضمون الذي كرَّره بصورة أوسع بعد ذلك وزير الاستخبارات السابق، حيدر مصلحي؛ وزاد على ذلك بالقول إنَّ ميليشيا الحوثي في اليمن هم نتاج الثورة الإيرانية. فيما قال نائب قائد الحرس الثوري، الجنرال حسين سلامي، في حينه، إنَّ "أنصار الله" في اليمن باتوا كـ"حزب الله" في لبنان، لاعبين مهمِّين في تحديد في معادلات المنطقة.

بناء على هذا المنظور الإستراتيجي تعمل إيران على استمرار الصراع الراهن في اليمن، مِن خلال مدِّ ميليشيا الحوثي بمختلف أصناف الدعم العسكري والسياسي والمالي والإعلامي واللوجستي، وبما يمكِّنهم مِن السيطرة والتحكُّم باليمن وبموقعه الإستراتيجي، وأخذ الميليشيات باتِّجاه بناء نموذج سياسي في الحكم يتماهى مع مؤسَّسات النظام الإيراني.

مِن جهة أخرى تعمل الإستراتيجية الإيرانية على إبراز ميليشيا الحوثي كنموذج مُلهم يشجِّع ويدفع بتصدير الثورة إلى أماكن جديدة في المنطقة.

وقد أثبت ميليشيا الحوثي كفاءة كبيرة لإثبات أهمِّيَّتهم وجدواهم لإستراتيجية الهيمنة الإيرانية، فبهم توسَّع النفوذ الإيراني إلى مناطق حيوية جديدة، وصار لإيران وجود عسكري على سواحل البحر الأحمر وقرب باب المندب، وهو ما عبَّر عنه سابقًا القائد الحالي للحرس الثوري، الجنرال حسين سلامي، بقوله: "اليوم إيران أكبر وأوسع ممَّا تحدِّده الخرائط الجغرافية".

كما أسهم ميليشيا الحوثي في ترجيح كفَّة إيران في مواجهة خصومها الإقليميين، ففي ذروة صراعها مع السعودية قاموا بشنِّ هجمات عدائية ضدَّ بنى تحتية ومنشآت نفطية سعودية وإماراتية، ما أدَّى إلى توقُّف حوالي 50% مِن إنتاج شركة "أرامكو" السعودية، كما شنُّوا هجمات أخرى على مدن حدودية وفي العمق السعودي وذلك لإظهار الرياض غير قادرة على حماية منشآتها النفطية ومدنها الرئيسة.

ورغم أنَّ الاتِّفاق الإيراني السعودي، والذي جرى في مارس الماضي، برعاية صينية، خفَّف حدَّة الأعمال العدائية بين البلدين، إلَّا أنَّه لم يسفر حتَّى الآن عن اتِّفاق على تسوية سياسية مِن شأنها إنهاء الصراع المسلَّح في اليمن. ومِن المتوقَّع أن تستمرَّ إيران في توفير مزيد مِن الدعم للحوثيين في مجالات مختلفة، وسترغب في تعزيز علاقاتها بهم، ودفعهم للتعامل مع جهود تسوية الصراع وإحلال السلام بطريقة متصلِّبة تضمن استمرار نفوذها الإستراتيجي في اليمن، مِن خلال اشتراط إبقاء السلاح في يد الميليشيات، وشرعنته عبر حكومة توافقية تخضع مِن الناحية العملية في القرارات الإستراتيجية لميليشيا الحوثي؛ وهو ما يعني في الأخير هيمنة ميليشيا الحوثي على الدولة والمجتمع وشئون السياسة والحكم، كما هو حال "حزب الله" في لبنان.

المحرِّك الرابع: التنافس والصراع الإقليمي والدولي للهيمنة على اليمن وموقعه الإستراتيجي:

الموقع الإستراتيجي لليمن جعلها في صلب الإستراتيجيات الدولية والإقليمية، فهي تطلُّ على أربع مناطق بحرية مهمَّة: البحر الأحمر، وخليج عدن، وبحر العرب، والمحيط الهندي (عبر أرخبيل سقطرى)، إضافة إلى العديد مِن الجزر التي تضاعف مِن الأهمية الإستراتيجية لليمن، لما تمنحه مِن ميزة الانتشار مِن خلال إقامة قواعد بحرية وجوِّية، وإمكانية تشييد موانئ تجارية سيكون لها دور مهم في التوزيع للمراكز التجارية العالمية.

كما يتحكَّم الموقع الإستراتيجي لليمن بمضيق باب المندب أحد أهمِّ الممرَّات المائية في العالم، وأقصر طريق بحري يربط بين الشرق والغرب، فهو نقطة التقاء حاسمة لحركة التجارة الدولية. وتنقل مِن خلاله معظم التجارة الدولية ما بين الاتِّحاد الأوربِّي مِن جهة، والصين واليابان والهند وبقية دول جنوب شرق آسيا مِن جهة أخرى. وهو بمثابة شريان لنقل النفط والغاز مِن الخليج العربي إلى أوربَّا وأمريكا. وجغرافيًّا يتحكَّم المضيق بمداخل ومخارج البحر المتوسِّط والخليج العربي، ويحتلُّ المرتبة الثالثة عالميًّا بعد مضيقي ملقا وهُرمز، حيث يمرُّ عبره يوميًّا ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف برميل نفط تمثِّل 4% مِن الطلب العالمي، كما تمرُّ عبره 21 ألف سفينة تجارية سنويًّا.

وقد أدى الصراع الراهن في اليمن إلى هيمنة قوى دولية وإقليمية على معظم السواحل والجزر اليمنية؛ فدوليًّا تهيمن البحرية الأمريكية والبريطانية والأوربِّية، وبحريات دول حليفة أخرى، على المياه الإقليمية والممرَّات التي يطلُّ عليها اليمن، وإقليميًّا تسيطر الإمارات عسكريًّا وسياسيًّا، بشكل مباشر وعبر قوَّات محلِّية مرتبطة بها، على معظم السواحل والموانئ اليمنية في بحر العرب، مِن حضرموت شرقًا إلى ما بعد باب المندب غربًا على البحر الأحمر، إضافة إلى أرخبيل سُقطرى، فيما تسيطر إيران عبر ميليشيا الحوثي على معظم الساحل الغربي لليمن، مِن جوار باب المندب جنوبًا وحتَّى الحدود السعودية شمالًا.

وفي تقديرنا أنَّ تطلُّعات الهيمنة على هذا الموقع الإستراتيجي كانت نتيجة وسببًا لاستمرار الصراع الراهن في اليمن، فالوجود الإيراني عبر ميليشيا الحوثي في السواحل والجزر القريبة مِن باب المندب يمثِّل هاجسًا أمنيًّا كبيرًا للدول الغربية الكبرى، ولدول الخليج العربي التي تمرُّ صادراتها النفطية عبر المضيق، وخاصَّة السعودية، فقد أدَّى تزايد هجمات ميليشيا الحوثي، بواسطة الزوارق المفخَّخة والطائرات المسيَّرة، على السفن الراسية في المنشآت النفطية السعودية على البحر الأحمر، إلى تعميق مخاوفها الأمنيَّة، وكذلك تضاعفت مخاوف الإمارات مِن تأثُّر حركة الشحن التجاري البحري المرتبط بميناء دبي.

في المقابل، ترى إيران أنَّ عليها انتهاج مقاربة سياسية وعسكرية تستثمر بموجبها وجودها البحري المباشر وغير المباشر على السواحل اليمنية لخدمة ملفَّات وقضايا تتعلَّق بالأمن القومي الإيراني ومصالحها الوطنية، كالبرنامج النَّووي، والعقوبات، وصناعة الصواريخ، والملفَّ السوري، والاعتراف بوضع خاصٍّ لإيران في العراق ولبنان. وفي هذا السياق يمكن تفسير سياسة طول النفس التي تتبعها إيران في التعامل مع متطلَّبات إيجاد تسوية سياسية للصراع المسلَّح في اليمن، وعدم استعجالها في الوصول لتسويات بشأنه مع السعودية في إطار اتِّفاق استعادة العلاقات بين البلدين الذي رعته الصين، ويبدو أنَّها سوف تتبنَّى في هذا الشأن سياسة تخفيف الصراع، وليس تسويته.

وفي حين اتَّبعت إيران سياسية تخفيف التوتُّرات مع السعودية في اليمن، صعَّدت عبر ميليشيا الحوثي مِن حدَّة التوتُّر مع الوجود العسكري الأمريكي؛ رغم أنَّ هذا الوجود قديم، إلَّا أنَّ حدَّة خطاب ميليشيا الحوثي تصاعدت مِن خلال حديثهم الواسع عن قدرات قواتهم البحرية وتطوُّرها وإمكانية الوصول إلى أيِّ أهداف في المياه والجزر اليمنية، وصولًا لتحذير نائب وزير خارجيَّتهم للقوَّات الأمريكية بأنَّ عليها أن تبتعد عن المياه الإقليمية اليمنية، ما لم سوف يترتَّب عليه بداية المعركة الأطول والأكثر كلفة في التاريخ البشري.

خاتمـة:

تفيدنا خبرة السنوات الماضية مِن الصراع في اليمن أنَّ الصراع قد يطول ما لم تتَّفق الأطراف اليمنية المتحاربة والمتصارعة على أن تضع الحرب أوزارها، وتشرع في إيجاد تسوية سياسية عادلة تضع مصلحة اليمنيِّين أوَّلًا؛ فالشعب اليمني قد أنهكته الحرب، كما أنَّ سيادة البلد واستقلاله وسلامة أراضيه باتت محلَّ تدخُّل واستهداف إقليمي ودولي، وهذا الوضع في المنظور الإستراتيجي ليس في مصلحة أيِّ طرف يمني يرغب في ممارسة عمل سياسي وطني.

كذلك تأكَّد أنَّ تحقيق السلم والاستقرار في اليمن، وفي المنطقة عمومًا، يتطلَّب مِن جميع الأطراف الإقليمية والدولية المتدخِّلة في اليمن أن تكفَّ عن الدفع باتِّجاه استمرار الحرب، وأن تساعد الأطراف المتصارعة على المضي في عمليَّة سلام حقيقية تستند على قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2216)، وتنتهي بعملية ديمقراطية حقيقية يختار فيها اليمنيون سلطاتهم (رئاسة، ومجلس نوَّاب، وحكومة، وسلطات محلِّية) بانتخابات حرَّة ونزيهة، وبناء دولة عادلة وضامنة لحقوق الجميع، وتحتكر وحدها حيازة السلاح المتوسِّط والثقيل، وتكون قادرة على الحفاظ على سيادة اليمن واستقلاله وسلامة أراضيه، وبما يؤسِّس لاستقرار وسلام دائمين في اليمن، ومع دول الجوار، وفي المنطقة عمومًا.

     

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد