بلاد ما بين النهرين في لوحات بلون الصدأ..

معرض الفنان العراقي مؤيد محسن في بغداد

2024-01-31 08:20:03 أخبار اليوم/ متابعات

  

يقارن زائر معرض الفنّان العراقي مؤيد محسن في صالة "ذي جاليري" في بغداد، بين الصورة الفوتوغرافية والرسم، لكن الصورة كانت دائماً في كل شيء، في الضوء وظلال الأشجار، وعلى صفحة الماء. هكذا شاهد نرسيس صورته منعكسة على الماء.

 

 لم يفترق الرسم تقنياً عن الصورة، وخصوصاً بعد اختراع آلة التصوير. أليس فنّ البورتريه والرسم الانطباعي والتشخيص من مقتربات آلة التصوير؟ وبالتالي فكلّ فنّان كان يشتغل في التشخيص، أو في التجريد والفن المفهومي، يستعمل آلة التصوير في عمله، وهناك اشتغال لعَين الفنّان الرسام مع تقنيات الكاميرا.

أميركا تلعب بالعراق تشكيلياً

 لوحات المعرض بأحجام كبيرة مزدانة بالتفاصيل، فالأفكار تتطّلب مقاسات كبيرة لتنفيذها، والأشكال موزّعة بشكل محسوب، ومشحونة برموز الحضارة الرافدينية، التي يبدو أن الفنان يستعملها تعبيراً عن موقفه السياسي الرافض للاحتلال.

ليس هناك أبلغ من هذا التعبير، أميركا تلعب بالعراق تشكيلياً عبر الاستهانة بحضارته: في لوحة "عطلة نهاية الأسبوع"، يلعبُ الرئيس الأميركي الأسبق أوباما كرة السلة التي يحبها، قاعدة الهدف هي عبارة عن تمثال الثور الآشوري الشهير برأس إنسان، وقريباً منه صورة آثار قديمة، وفي البعيد يبدو تمثال نصب "الحرية" في أميركا شاخصاً.

الصدأ.. لون الخراب

تُحاكي هذه التعبيرية دقّة الصور الفوتوغرافية، ومرارة الواقع العراقي السياسي والحضاري؛ التفاصيل كلها في مشهد من اللون الأصفر، يقترب من لون الصدأ، لون الخراب، المشغول بعناية فائقة (محتلاً) اللوحة، بينما ملابس الرئيس وتمثال الحرية وقاعدة هدف السلة، في الأزرق السعيد المرتاح لغايته، كأنه حقّق لأميركا طموحها باحتلال العراق، ثم اللعب به.

 

في السياق ذاته، يظهر وزير الدفاع الأميركي السابق رامسفيلد، منفّذ الهجوم العسكري الأميركي لاحتلال العراق 2003 في لوحة "نزهة": يجلس رافعاً قدميه، مستهزأً بما حوله، يقرأ في بريده العسكري أوراقاً تشير إلى الإرث التاريخي العظيم لحضارة وادي الرافدين، يقذف هذه الأوراق في الهواء استخفافاً بها، وإلى جانبه تمثال" أسد" بابل التاريخي على قاعدة ذات رفوف للكتب؛ حذاء رامسفيلد العسكري، بمواجهة حضارة عريقة.

هايدغر و"حذاء" فان جوخ

 

 كتب ذات مرّة الفيلسوف هايدغر عن لوحة الفنان الهولندي فان جوخ "الحذاء" (1886) التي رسمها في باريس، وكان يقتفي خبرته مع الألم والفقر في مقاطعة "درنته" الفقيرة في شمال هولندا، معبّراً عن حياة الفلاحين في تلك المنطقة الشهيرة بالمناطق الزراعية الموحلة والشائكة.

 

يقول هايدغر في كتابه "أصل العمل الفني" عن "الحذاء" بوصفه تعبيراً عن قدر الفلاحين وعلاقتهم بالأرض والمستقبل:

 

"من خلال الفتحة المُظلمة للحذاء البالي، تبدأ خطى العامِل المُتعبة، من الثقل الوعر لزوج الأحذية، هناك تراكم في الجرأة.. على جلد الحذاء، تقبعُ رطوبة التراب ووفرته، وتحت النعلين تنزلق وحدة الطريق. في الحذاء يهتزّ النداء الصامت للأرض وهديتها الهادئة في نضج حبّة القمح، ورفضها غير المفهوم لذاتها وسط الخراب الساكن في الحقل الشتوي".

أصبح "حذاء" فان جوخ موضوعاً لمراسلات بينه والمؤرّخ الفني الليتواني ماير شابيرو، كما تدخّل في الأمر جاك دريدا فيلسوف التفكيك.

 

فمَن يتذكّر حالياً الحذاء العسكري لرامسفيلد؟ الجواب لا أحد. ثمّة صورة على منوال استهزاء حذائه بأسد بابل، تمثّل الثقافة العسكرية الأميركية المتجاهلة للشعوب: جنود أميركيون يهبطون سلالم زقّورة "أور" التاريخية، مُدجّجين بالسلاح بأحذيتهم العسكرية الثقيلة.

 

بالمناسبة، اختار البابا فرنسيس زقورة "أور"، التي حجّ إليها خصيصاً لصلواته إلى "بيت" النبي إبراهيم، هذه الصورة الدينية والحضارية مقابل صورة الجنود الأميركيين، معبّرة عن الخواء الثقافي، متجاهلين ما قاله الملك جلجامش في ملحمته: "هو، الذي رأى كل شيء، فغنّي باسمه يا بلادي".

الصورة والخطاب التشكيلي

 

لا يبتعد التشكيلي العراقي مؤيد محسن في معرضه "مشهد الشمس" عن دقّة الكاميرا، وكدح الفنان المُشتغل على موضوعه بصبر؛ إذ يبدو واضحاً انهماكه بالأفكار التي تتطلّب أحجاماً كبيرة، بسبب التفاصيل الكثيرة والدقيقة على سطح اللوحة.

 

 يقول الفنّان لـ"الشرق": تأثّرت في طفولتي بالصور الفوتوغرافية، كانت تثير عندي أسئلة حزينة عن مصير أصحابها، ما جعلني أحاول في لوحتي أن أصنع خطاباً تشكيلياً، يشير إلى الصور تلك".

 

يضيف: "اللوحة بوصفها فكرة وجهداً وتقنية، تستغرق وقتاً لإنجازها، يُحيل ذلك إلى مراجعة وتدقيق التفاصيل، وصولاً إلى بلوغ دهشة المتلقّي".

سريالية عراقية

 

استطاع الفنّان أن يقدّم لوحة سريالية عراقية تشكيلياً وحضارياً عن بلد ما بين النهرين، حتى وهو يرسم الأهوار التي خَدم في مستنقعاتها جندياً إبان الحرب العراقية الإيرانية، في تصوّر شخصي له، بأن العراق، مستباح في كلّ شيء، في مياهه وأهواره وحضارته".

 

لا يقدّمُ الأهوار أو الطبيعة على سجيتها؛ كرسي الوظيفة الرسمية معلّقاً بين الأشجار مقلوباً، فلا الكرسي هناك في معنى وظيفته، ولا الأشجار على طبيعتها بسبب الكرسي بينها.

 

وفي لوحة أخرى، ما الذي يجعل سكّة حديد وسط الأهوار، ورجل الهور يعبرها مع جاموسته؟ في ترحيل غريب لوظائف الأشياء والمعاني.

 

يقول الفنّان لـ"الشرق"، غادرتُ منطقة اشتغال الفنّان السريالي دالي، وأنطونيو، وأبحث الآن عن سرياليتي، سريالة الواقع العراقي رموزاً ومعاني".

 

لا ينكر الفنان بصراحته المعروفة عنه تأثّره بالفنان البلجيكي رينيه ماغريت، ولكن بلوحة عراقية تعبيرية سريالية ذات بناء معماري رمزي مُتقن (توازي دقّة اشتغال الكاميرا)، مستفيداً من خبرته الأكاديمية، ومعتنقاً في الآن ذاته موضوعه الأثير.

 

 يقول دولوز "أن تعثُر، أن تجد"، بمعنى، ما تعثُر عليه من موضوعات، اشتغل عليه وكأنه لك، لأنّك مَن وجدته.

"مشهد الشمس"

 

ثمّة اتفاق واضح في عمله، ما بين الحرفة الأكاديمية العالية، واختيار الموضوعات من سريالية الواقع الاجتماعي والسياسي، وبين الأحجام الكبيرة للوحات، لكي تعبّر عن التفاصيل الكثيرة والمتنوّعة.

 

لكن اللوحة لا تعاني نشازاً من ذلك، بل تظهر حميميتها بفضل التنوّع في الموتيفات، وهذا الكدح الفني لا يتمّ إنجازه إلا بتلك الطريقة التشكيلية، كما في "مشهد الشمس"، كبصمة عراقية، تنافس غيرها، بل وأحياناً تتفوّق عليها.

 

يقول محسن عن ذلك الاتفاق التشكيلي بين عناصر لوحته، "جرّبت الأحجام الصغيرة، لكنها على الرغم من جماليتها، لا تمنحني الفرصة الكافية لإظهار التعالق ما بين الأشكال والأفكار ذات التفاصيل الكثيرة".

 

هكذا، ثمّة تخادم متبادل تقني ومعرفي ما بين الشكل وفكرته. تحتاج الأفكار إلى أشكال لتنفيذها، كما أن صناعة اللون في لوحته، تعادل من الوقت أو الجهد عمل لوحة عند سواه.

ميتافيزيقيا جديدة

 

ليس سهلاً أن يعتنق الفنان التشكيلي فكرة اللوحة- الخطاب، إذ يحتاج إلى التنظير أولاً، ثم إلى ترسيخ عمله تالياً. ولا بدّ من الإقرار بصعوبة هذا الأمر، إذ حتى الشاعر مثلاً، سيعاني عندما يقول "إن الشعر هو خطاب"، (فكيف بالفنان) كاسراً التلقّي الجمالي للشعر وللخطاب معاً، بمعنى كلمات جديدة داخل ميتافيزيقيا جديدة، وليس كما عبّر هايدغر مُنتقداً عمل سارتر ذات مرّة "كلمات جديدة داخل ميتافيزيقيا قديمة".

* الشرق

 

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد