إمام جليل لا يختلف اثنان على تقواه وصبره وزهده، لكنه خلَّف أتباعا تشدد بعضهم فأسرف، واعتدل بعضهم فتعايش، وقف في وجه المعتزلة وعارضهم في مسألة خلق القرآن.

وقد سلطت حلقة (2023/4/11) من برنامج "تأملات" الضوء على سيرة الإمام أحمد بن حنبل، الشيباني العربي البغدادي الذي كان يعيش على كراء دكانين خلفهما له أبوه، وكان يعتاش بالتقاط الثمر أجيرا عند المزارعين.

عرف بكاريزما جذبت الناس إليه في حياته وجذبتهم إلى مذهبه بعد موته، تقوم على الزهد والصبر والتمسك بالمعتقد.

وفي زمن المأمون ثم المعتصم وقف ابن حنبل في وجه المعتزلة وعارضهم في مسألة خلق القرآن، فامتُحن، وتمسك بقوله، وضُرب وسُجن سنتين وأشهرا. زاره عمّه إسحق في سجنه، فقال لعمه "لست أبالي السجن فهو مثل بيتي، ولا أبالي السيف، إنما أخاف خفقة بالسوط لا أصبر لها"، فسمعه أحد من بالسجن فقال له "ما هو إلا سوطان ثم إنك لا تدري أين يقع الباقي"، فسرّي عنه. وجاءه بعض محبيه في سجنه بماء مثلوج فسأل "أنال كل من بالسجن هذا الماء؟" فقيل لا. فأبى أن يشربه.

ومات المعتصم وتولى الخلافة الواثق الذي استمر في مناصرة المعتزلة، غير أنه أخرج ابن حنبل من سجنه وأرسل إليه ألا تساكنني في بلد. فتشرد ابن حنبل في البلاد، ثم عاد إلى بيته متواريا لا يخرج، حتى مات الواثق. وتولى المتوكل الخلافة فرفع المحنة عن أهل السنة، وأحسن إلى ابن حنبل.

مدح أحدهم ابن حنبل بصبره وثباته، فقال له ابن حنبل "بل ذلك أخي أحمد بن نصر الخزاعي، أغلظوا له القول فأغلظ لهم وما خافهم، فضربوا عنقه". وقيل له مرة إن أهل البدع قد كثروا، فقال "بيننا وبينهم الجنائز".

صديق الشافعي

وعاش ابن حنبل، وهو المحدث صاحب المسند الشهير بعد رفع المحنة 22 سنة، وكان صديقا للإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي قال:

قالوا يزورك أحمد وتزوره      قلت: الفضائل لا تفارق منزله

إن زارني فبفضله أو زرته     فلفضله، والفضل في الحالين له

تعلق الناس بالإمام ابن حنبل، وكان يخرج من الصلاة فيتبعه الناس، فيقف حتى ينصرفوا ثم يسير وحده إلى بيته.

ومات أحمد بن حنبل عن 77 سنة. يقول ابن كثير "ما اجتمع خلق في جاهلية أو في إسلام مثلما اجتمع في جنازة أحمد ابن حنبل".

كان ابن حنبل سريع العفو عمن أساء إليه، بلغه في سجنه أن المعتصم فتح عمورية فسامحه ودعا له. على أن حنابلة بغداد أسرفوا في التشدد بعد موت إمامهم، فاعتدوا على المخالفين، وأرهبوهم. واتكأ على مذهب ابن حنبل آخرون لم يكونوا في مثل تسامح صاحب المذهب.

المصدر : الجزيرة