لابد أن يدرك الجميع، وبالأخص أولئك الذين يدّعون الحياد ويظهرون بمظهر «الفاهمين والحاذقين» بأنهم تجاوزوا فكرة الحرب، من ناشطي المنظمات ومن يسعون لإعطاء دروس في السلام، أن القضية اليمنية لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى جذورها الأولى، ومراجعة الأحداث منذ اندلاع الحرب الأولى في صعدة حتى اللحظة، نقطةً بنقطة، وبمنطقٍ واقعي لا شعاراتي.
كثير من هؤلاء ينطلقون من رؤى سطحية أو مستوردة، بعيدًا عن الواقع اليمني المركّب. بعضهم عاش طويلًا في الخارج ولم يعايش تفاصيل الصراع، وآخرون يعملون في منظمات حقوقية أو دولية أو في السلك الدبلوماسي، تلقّوا تأهيلاً وفق أيديولوجيات غربية تحاول تطبيق نماذج جاهزة على الحالة اليمنية، دون وعي بطبيعتها الخاصة. ومن خلال برامج موجهة للشباب وأنشطة تدريبية أو شراكات مع منظمات محلية، يسعون لفرض تصورات «نظرية» على واقع مختلف جذريًا.
ما يغيب عن هؤلاء أن جماعة الحوثي لا تنظر إلى اليمنيين كشركاء متساوين في الوطن، بل كمجتمع خاضع لـ«الحق الإلهي» المنسوب لسلالة محددة. هذه ليست جماعة سياسية يمكن التفاهم معها على أساس المصالح المشتركة أو ترتيبات الدولة الحديثة، بل هي حركة أيديولوجية عنصرية متجذّرة، ترى نفسها صاحبة الحق الحصري في الحكم والولاية، وتعتبر بقية اليمنيين «تابعين» يجب أن يخضعوا لها.
الحديث عن إمكانية إنهاء الخصومة مع الحوثيين كما تنتهي الخلافات بين الدول، يتجاهل أن الصراع في اليمن ليس صراعًا على السلطة فحسب، بل هو صراع هوية ووجود. فالجماعة الحوثية تتعامل مع المجتمع بعقلية فوقية إقصائية، تُعيد إنتاج تراتبية اجتماعية مريضة تقوم على التفريق بين «السيد» و«التابع»، «الأصل» و«الفرع»، وهي منظومة فكرية تجاوزها العالم منذ قرون.
على أرض الواقع، رسّخ الحوثيون مشروعهم القائم على الهيمنة السلالية من خلال سلسلة من الإجراءات والسياسات:
صادروا مؤسسات الدولة واحتكروها لعناصرهم تحت ذريعة الاصطفاء الإلهي. حوّلوا التعليم والإعلام إلى أدوات تعبئة طائفية، تغرس الولاء للسلالة في عقول الأجيال. مارسوا التمييز في الوظائف والمناصب بناءً على النسب والانتماء لا الكفاءة. جرّدوا المواطنين من حقوقهم وصادروا ممتلكاتهم تحت مسميات «الخُمس» و«الولاية» و«الحق».
لذلك، لا يمكن الحديث عن إنهاء الخصومة مع جماعة تحمل فكرًا يرى اليمنيين في مرتبة أدنى، قبل أن تتخلى بشكل جذري عن هذا الفكر العنصري، وتعترف بالمواطنة المتساوية كأساس جامع، وتعيد الحقوق لأصحابها.
فالخصومات السياسية يمكن أن تنتهي بتسويات، لكن الاستعلاء السلالي لا يُسوّى، بل يُجرّم. وأي حديث عن «مصالحة» دون معالجة الفكر الحوثي وتجفيف منابعه، ليس إلا شرعنة للتمييز واستمرارًا للهيمنة بأشكال أخرى.
الحوثيون لا يرون في اليمنيين شركاء، بل «رعايا» تابعين. ولا يتعاملون مع الدولة ككيان وطني جامع، بل كغنيمة تُدار من «البيت السلالي». ومن هنا، فإن أي تقارب معهم دون تغيير جذري في بنيتهم الفكرية والسياسية، لن يكون سوى هدنة مؤقتة تعيد إنتاج المأساة لاحقًا بشكل أشد قسوة.