منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2014، أصبحت التقارير الحقوقية أحد أهم الأدوات لحفظ الذاكرة وكشف الانتهاكات والمطالبة بالعدالة. غير أن كثيراً من هذه التقارير بقيت أسيرة الأرقام الباردة والجداول الجافة، وهو ما جعلها تفقد جزءً من قيمتها الجوهرية. فالتقرير الحقوقي في جوهره ليس مجرد إحصاء لضحايا أو حصر لانتهاكات، بل هو بناء سردي متماسك يمنح للأحداث معناها، ويعيد رسم صورة الحرب من زاوية إنسانية وقانونية. هنا حاولت أن تحضر منظمة سام للحقوق والحريات، التي حاولت في تقاريرها أن تقدم سرديات حقوقية تعكس حجم المأساة، لكنها – كما سائر المنظمات – تواجه تحديات كبيرة في تطوير أدواتها لتكون أكثر تأثيراً محلياً ودولياً.
إن الاقتصار على ذكر الأرقام يفقد التقارير قوتها الحقيقية. فعدد القتلى أو المختطفين أو البيوت المهدمة لا يكتسب قيمة أخلاقية وقانونية إلا إذا أُرفق بسردية تعكس أصوات الضحايا وتجعل القارئ أو المتلقي يرى خلف الرقم وجهاً وقصة وحياةً انقطعت. تقرير عن قصف جوي مثلاً لا يكفي أن يقول إن ثلاثين مدنياً قُتلوا، بل عليه أن يروي كيف تحولت مدرسة إلى ركام، وكيف تشردت أسر فقدت معيلها، وكيف أن هذا الفعل يخالف نصوص القانون الدولي الإنساني. إن السردية هنا تمنح للأرقام معنى، وتحولها من بيانات جامدة إلى شهادة دامغة لا يمكن إنكارها.
وظيفة السردية الحقوقية ليست فقط عرض الوقائع، بل صياغتها في إطار متكامل يجمع بين معاناة الضحايا، والتحليل القانوني، والسياق السياسي والاجتماعي. السردية بهذا المعنى تصنع خطاباً مضاداً للروايات المضللة التي تروجها الأطراف المتحاربة لتبرير جرائمها أو إنكارها. وحين يتمكن التقرير من الجمع بين هذه الأبعاد الثلاثة، فإنه يتحول من وسيلة للتوثيق إلى أداة للتأثير، قادرة على تحريك الرأي العام، ودفع المؤسسات الدولية لاتخاذ إجراءات، وإعطاء الضحايا منصة لرفع أصواتهم.
رغم أهمية الجهود المبذولة، إلا أن معظم التقارير الحقوقية حول اليمن ما زالت تعاني من قصور واضح. فهي كثيراً ما تفتقر إلى بناء سردية متماسكة، وتكتفي بوقائع متناثرة تفتقر إلى الخط الناظم الذي يبرز الطابع المنهجي للانتهاكات. كما أنها تميل إلى التركيز على الكمّ والإحصاء، متغافلة عن البعد الإنساني والسياسي والاجتماعي. إضافة إلى ذلك، فإن لغتها تعاني من نقص في المصطلحات الحقوقية التقنية التي تضع الانتهاكات في دائرة حقوقية مؤطره بإطار قانوني ، أو تميل لأن تكون تقنية جافة لا تصل إلى الجمهور العام ولا إلى وسائل الإعلام العالمية، بل تبقى محصورة في دائرة الخبراء. يضاف إلى هذا أن التقارير غالباً ما تصدر مجزأة حول قضايا منفصلة مثل الاعتقالات أو القصف أو التعذيب، من دون أن تربطها بخطاب جامع يوضح أن هذه الانتهاكات جزء من منظومة أوسع هدفها إخضاع المجتمع وتدمير نسيجه.
إن غياب السردية الحقوقية الوطنية المتماسكة يشكل خطراً مضاعفاً، لأنه يترك الساحة لروايات الأطراف المتورطة في الانتهاكات، ويجعل الضحايا بلا صوت يمثل معاناتهم، ويصور الانتهاكات بمعزل عن الخلفيات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية سواء تاريخية آو آنية، حيث تحرص الأطراف علي تجنب ذكرها أو تحميلها أطراف أخري، في اليمن مثلاً، أدى غياب هذه السردية إلى تضارب في الخطاب الحقوقي والسياسي، وتحولت المأساة الإنسانية إلى أرقام متفرقة تُستخدم في المزايدات بدلا من أن تكون أساساً لمطالب العدالة. هذا القصور جعل المجتمع عاجزا عن إدراك الطابع المنهجي للانتهاكات أو تحميل الأطراف مسؤولية قانونية واضحة.
على المستوى الإقليمي، سمح غياب السردية لجهات مثل الرياض وأبوظبي وطهران بفرض رواياتها الخاصة، بحيث أصبح المشهد اليمني يُختزل في خطاب سياسي يخدم مصالح تلك الدول أكثر مما يخدم الضحايا. ونتيجة لذلك، تم تهميش قضايا جوهرية مثل حصار تعز أو الاعتقالات التعسفية في الإعلام العربي، وتحولت إلى مجرد عناوين عابرة.
أما دولياً، فقد أدى غياب السردية الحقوقية المنظمة إلى تراجع حضور اليمن في الأجندة العالمية. فالعالم لا يتحرك أمام الأرقام وحدها، بل أمام روايات متماسكة تحرك الضمير العام وتخلق ضغطا على صانعي القرار. وعندما لم يجد المجتمع الدولي سردية حقوقية يمنية قوية، تبنى في كثير من الأحيان روايات الأطراف المتحاربة أو الإعلام المنحاز. وهكذا، ضاع اليمن بين الروايات المتضاربة، وفقد الضحايا مساحة لإيصال أصواتهم إلى العالم.
إن غياب السردية لا يعني فقط فقدان أداة للتوثيق، بل يعني عملياً ضياع الذاكرة الجماعية وتشويه صورة الضحايا، وفتح الباب للإفلات من العقاب، وإعادة إنتاج الصراع في دورات جديدة من العنف.
رغم هذه الإشكاليات، فإن منظمة سام قدمت في بعض تقاريرها نماذج لافتة للسردية الحقوقية الفعالة، وهذا لا يعني انها الوحيدة، هناك العديد من المنظمات التي نجحت في بناء سردية من خلال تقاريرها المتماسكة، ولكن أحاول هنا اقدم مقاربة للمنظمة التي اشرف عليها ، بحيث تكون محلاً للنقاش والتصويب، ففي تقرير "عقد من الانهيار" الصادر في سبتمبر ٢٠٢٤، يحمل سردية واسعة، فهو لا يصف حدثاً واحداً بل زمناً ممتداً من الانكسار الوطني، فعشر سنوات من زمن الحرب ، هي سنوات تآكل الدولة، وانكسار المجتمع وتمزق الإنسان، وهو امتداد لتقرير "الانهيار الكبير" الصادر بتاريخ سبتمبر ٢٠٢١، يرسم صورة كلية لانهيار اليمن في الحرب، ويرصد لحظة سقوط شامل للدولة والمجتمع والإنسان، في حين كان تقرير "ماذا بقي لنا " الصادر بتاريخ يوليو ٢٠١٩، يهدف إلى تقديم سردية حول كيفية تحويل البيوت إلى جبهات، النساء شهود، وناقلات للذاكرة، حيث تكشف السردية ان الحرب لم تكتفِ بقتل الرجال، بل حولت النساء إلى ضحايا وأن مليشيا الحوثي لم تفرق بين رجل وامرأة، بينما في تقرير "الحارس القضائي" الصادر في فبراير ٢٠٢٢ ، قدم صورة عن كيف تحول القانون إلى أداة للسطو علي أملاك المعارضين، وأن استهداف البيوت لم يكن فعلاً مادياً فقط، بل استهداف للهوية والذاكرة والعلاقات الاجتماعية، وفي تقرير "الغيبة الطويلة" الصادر بتاريخ أغسطس ٢٠٢١، الذي يوثق قصة الإخفاء القسري المؤلمة، يوثق كيف تحول الغياب إلى جرح يومي للأمهات والأسر وإلى عذاب نفسي مستمر، حيث تركز السردية هنا على الإنتظار المقلق، حيث يصبح الغياب أكثر قسوة من الموت نفسه، بينما تقرير "رعب القناص" الصادر بتاريخ نوفمبر ٢٠٢١، يركز كيف تحول القنص كأداة حرب يومية ضد المدنيين خاصة في تعز، الطفل المرأة والمار العابر جميعهم أهداف "للموت المتربص" ، حيث تركز السردية هنا علي الكشف كيف حول القناص الأحياء إلى مصائد، والمنازل إلى أقفاص خوف، وفي تقرير "سنوات الجحيم" الصادر بتاريخ أكتوبر ٢٠٢٤، ركزت السردية علي كيف صنعت الحرب جحيماً خلف الجدران، كيف تسلب حياة كاملة وتحول المجتمع والأسر إلى رهينه الخوف والانتظار، وكشف الجانب النفسي والأمراض الجسدية التي تخلفها هذه السنوات، وأخيراً تقريري "تعز.. الأمن المرتبك" الصادر بتاريخ ديسمبر ٢٠٢٢، و"بيت العنكبوت" الصادر في ديسمبر ٢٠١٩، حيث يحمل الأول سردية مختلفة، حيث لم تعد الحرب هي الانتهاكات، بل هي أيضا فوضي السلطات، والانتهاكات المرافقة، في حين "بيت العنكبوت" يوثق صراع الانتقالي مع الشرعية ويقدم سردية تفكك بيت اليمنيين من الداخل، الذي من المفترض أن تكون بيتاً يحمي اليمنيين من انتهاكات الحوثي وانقلابه.
غير أن هذه المحاولات تحتاج إلى تطوير أوسع يجعل السرديات الحقوقية أكثر حضوراً وفاعلية. فالتقارير الحقوقية في اليمن ينبغي أن تدمج بشكل أعمق شهادات مباشرة للضحايا وأسرهم، وأن تعقد مقارنات مع تجارب عالمية مشابهة لإبراز الطابع المنهجي للانتهاكات، وأن تقدم خطاباً مزدوجاً يصلح للخبراء وصناع القرار من جهة، وللرأي العام العالمي من جهة أخرى. كما أن توظيف الوسائط المتعددة أصبح ضرورة لا غنى عنها في عصر الصورة السريعة، بحيث تتحول التقارير إلى مواد قادرة على الوصول للجمهور عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. والأهم أن تُربط الانتهاكات دائماً بتداعياتها المجتمعية الأوسع مثل النزوح، انهيار التعليم، وتفكك الأسر، لتوضيح الكلفة الحقيقية للحرب بعيداً عن الأرقام الجافة.
التقارير الحقوقية ليست مجرد وثائق للتوثيق والأرشفة، بل هي روايات حيّة تحفظ الحقيقة من الضياع وتمنح الضحايا فرصة للبقاء في الذاكرة. منظمة سام للحقوق والحريات خطت خطوات مهمة في هذا الاتجاه، لكنها ما تزال بحاجة إلى تعميق بنيتها السردية حتى تتحول تقاريرها إلى أدوات قادرة على إحداث أثر حقوقي وسياسي وإنساني. فالحرب ليست رقماً يُسجل في إحصاءات، بل مأساة إنسانية يجب أن تُروى بصدق وعمق كي لا يطويها النسيان، ولكي تبقى شاهداً على ضرورة العدالة والمساءلة.