حين يتكاتف المجتمع لإعادة بناء وطنه، تتحول المبادرات الفردية إلى معجزات جماعية. سوريا اليوم تقدّم نموذجًا فريدًا يجسّد روح الانتماء وعشق بناء الوطن. وأنا أسمع عن تبرع رجل أعمال في سوريا خلال حفل "الوفاء لإدلب" بمبلغ 55 مليون دولار، وآخر بـ23 مليون دولار، وثالث بـ20 مليون دولار، وقائمة طويلة من العطاء، ذهبت بي الذاكرة إلى بضعة أيام مضت حين سعيت مع بعض التجار لتغطية تكاليف علاج أحد الجرحى في اليمن، ولم تتجاوز ألفي دولار. احتجت آنذاك إلى التواصل مع أكثر من عشرة رجال أعمال، وكان أكثرهم سخاءً قدّم 200 دولار فقط.
لا أتحدث هنا تهكمًا على أحد، بل لأضع قياسًا صارخًا بين مستوى المفاهيم الوطنية في العطاء لصالح استعادة الوطن أو بنائه. قبل أقل من عام سعيت لإقناع عدد من البنوك التجارية بعمل وطني بامتياز: صرف مرتبات الجيش مقابل قيد شيكات الرواتب في حساباتها لدى البنك المركزي. لكن البنوك جميعها وضعت شروطًا وكأنها تمنح قروضًا للجيش، وليس الأمر مجرد توفير سيولة مقابل قيد مبالغ في حساباتها الرسمية.
وفيما أسمع من أصدقاء سوريين عن رجال أعمال يتكفلون بجرحى من مختلف التشكيلات التي قاتلت لتحرير سوريا، وأقارن ذلك بما يواجهه جرحى الجيش الوطني اليمني، أشعر بوجع مضاعف. أولئك الأبطال الذين ضحوا بأنفسهم دفاعًا عن الوطن ما زالوا يتظاهرون يوميًا تقريبًا للمطالبة بحقوقهم المشروعة في العلاج. وإذا أضفنا انعدام المسؤولية لدى الشرعية والحكومة، فأين دور المجتمع؟ أين واجب رجال الأعمال والبنوك وشركات الصرافة تجاه هؤلاء الأبطال الذين حَموا الوطن وممتلكات الجميع، بما فيهم رجال الأعمال أنفسهم؟
في سوريا، من قمة الرئاسة إلى أصغر موظف، وحتى بائع الحمص المتجول، تجد الجميع يساهم بما يستطيع. بينما في اليمن، ورغم أن البيوتات التجارية الكبيرة وحدها قادرة على حل ملف جرحى الجيش بالكامل، ما زالت الأبواب مغلقة. فما بالنا لو تدخّل رجال الأعمال مجتمعين لمواجهة هذا الملف؟
لنتحدث بصراحة: الجميع يقر أن غالبية قيادة الشرعية والحكومة غارقون في الفساد. فلنجعل هذه محطة إجماع ونسلّم بها، ثم نسأل: إذا تخلّت السلطة الفاسدة عن واجبها، فلماذا يتخلى المجتمع بدوره؟ لماذا يصمت رجال الأعمال، وهم القادرون على صنع الفارق؟
لا يمكن القول إن رجال الأعمال السوريين أكثر وطنية من رجال الأعمال اليمنيين، لكن يمكن القول إن انعدام الثقة وسوء الإدارة يفسر هذا الإحجام — على الأقل إن أحسنا الظن. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يتوجب على البيوتات التجارية في اليمن التدخل لمعالجة الملفات الكبرى التي بات إهمالها خطرًا داهمًا على ما تبقى من الدولة. بل إنهم، لو اجتمعوا، قادرون على تقديم قروض داخلية للحكومة تغطي ميزانية استعادة الدولة وتحرير العاصمة صنعاء، وبذلك يثبتون أنهم شركاء حقيقيون في القرار الوطني، ويقطعون يد الوصاية الخارجية التي تُذل اليمن بفتات المنح.
إن بقاء اليمن مرهونًا بفتات المساعدات ليس قدَرًا محتومًا، بل نتيجة فراغ صنعه الفساد من جهة، وصمت رجال الأعمال من جهة أخرى. لقد آن الأوان أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم: الدولة بواجباتها، والمجتمع بضميره، ورجال الأعمال بقدرتهم. فلا معنى لثروة تُكدّس، فيما جراح الأبطال تنزف دون دواء، ولا قيمة لأي حديث عن السيادة، إذا كان إنقاذ الوطن لا يبدأ من الداخل.
ان التحرر يبدا بتحمل المسؤولية من كل فئات المجتمع، والتحرر من كوابح الخارج بات اولوية اليوم وضرورة لانطلاق معركة التحرير الكبرى وتحقيق النصر الناجز بهزيمة مليشيات الاحتلال الايراني الحوثية.