ما زالت الغصّة جاثمة في الحلق، كحجر يابس لا يذوب. ما زال ذاك الصباح الأسود يطاردني، صبح صنعاء الذي لم يكن صبحًا، بل كان شتاءً أبديًا، غبارًا ورمادًا فوق الوجوه، وعيونًا زائغة مصفرّة كأن القيامة قد هبطت عليها فجأة.
كانت المدينة عروسًا مذبوحة على قارعة الطريق، تنهشها أيادٍ غريبة، ينتصب في تقاطع الشوارع أطفالٌ أشعث بملابس ممزقة ولهجات قطاع طرق، يفتشون السيارات والمارّة دون أي احترام كأنهم ورثة الأرض. وآخرون يزحفون في الأزقة وهم يصرخون بأعلى صوتهم، يملأون سماء صنعاء رعبًا ويقتحمون البيوت وينهبون المؤسسات، كما لو كانوا يكتبون سطرًا جديدًا من كتاب الخراب.
في ذلك اليوم، اغتيلت جمهورية صنعاء أمام أعيننا، ليتبع الاغتيال أخواتها من المحافظات. لم يكن الاغتيال رصاصة ولا انقلابًا عابرًا بالمفهوم السياسي والقانوني، بل ذبحًا بطيئًا لامس وريد كل جمهوري، لتغرق الحياة بدم قانٍ ممزوج بوجعٍ وألم على يد تتار العصر. خرج صالح، الذي حكمنا ثلاثًا وثلاثين عامًا، وأبناؤه وحزبه، شاهرين أسلحة الخيانة والنفوذ في ظهورنا جميعًا، وتكفلت أبواق الإعلام الصفراء بغسل عار الدم بالحبر الرخيص، فيما ظهر بعض النشطاء ذوو الوجه الليبرالي المزيّف فوق أطلال الخراب يعلنون الثورة وجمهورية الإمامة الجديدة. جميعهم لم يكن لهم من همّ سوى التشفي، حتى لو احترق الوطن بما فيه.
أرى الجنود الذين دافعوا عن شرفنا ما زالوا في شوارع ذاكرتي، أتجرع منظر إهانتهم بلا رحمة، كيف انكسرت بنادقهم، وداست أقدام الغزاة شرفهم. وتساءلت: كيف تجرأ البعض على الضحك على ذاك المنظر بل والتشفي منه؟ ولماذا ماتت نخوتنا؟ في المقابل كان جنودٌ آخرون علّقنا عليهم الآمال، ومنحوا شرف حراس الجمهورية، يوجهون فوهات بنادقهم نحو الجمهورية نفسها التي منحتهم اسمًا ومعنى. وبين ذاك وذاك، كان “المشرفون” الاسم الجديد الذي يحمل معه الموت والخراب، يعلون فوق رؤساء الوزراء، يوزّعون أوامر لا يفهمون حروفها. كانت مهمتهم الوحيدة إهالة التراب على خمسين عامًا من جمهورية حلمنا بها ولم تكتمل.
وفي يوم كان يجب أن يكون للسلام العالمي، كما أقرت الأمم المتحدة، تواطأ ثلاثي الخراب: الإمامة التي عادت بوجه أكثر قبحًا، والعسكرية الصالحية الملطخة بالخيانة، وإعلامٌ ونشطاء باعوا الكلمة والضمير. دخلوا جميعًا في جريمة واحدة: قتلوا الجمهورية، وأدخلوا اليمن في نفق بلا قرار. أما الخيانة العظمى فكانت ساكنة في القصر المسمّى جمهوريًا، تتفرج من علٍ، تتلذذ بصمتٍ راضية، بل مشاركة في التمهيد لهذه الجريمة من عمران إلى صنعاء.
سقطت اليمن حين صعد إلى المشهد أنذل الرجال، أحقر الرجال، أولئك الذين باعوا الأرض والعرض، ثم عادوا يصرخون على الجمهورية، يلطمون خدّهم خداعًا، بحثًا عن يدٍ تجندهم لنفس الوظيفة. يسعون لتكرار المشهد بوقاحة، إنجاز المهمة التي لم تكتمل، ذبح ما تبقى من شرفنا قطعة بعد قطعة.
تذكروهم… تذكروا قسمات وجوههم، نبرات كلماتهم، حروف منشوراتهم. لا تنسوا ملامحهم التي صارت كالأقنعة، لم يتغيروا. صحيحٌ أن بطونهم انتفخت، وأصبحوا يركبون سيارات فارهة، ويمتلكون إقامة دائمة في دول باذخة، لكنهم هم هم، أشباح الغدر نفسها. لا نريد أن نكون شعبًا بذاكرة سمكة. من لم يتعلم من التاريخ، ستسحقه دواليب الغد سحقًا.
فلنستحضر الوجع كما هو: لحظة تشردنا، منازلنا المهدمة، دموع الأمهات، كرامتنا المداسة في الطين. لنغسل قلوبنا بالدموع كي لا نغفر، لأن غسل العار ما زال بعيدًا بعيدًا، ولأن الجلادين ما زالوا يتصدرون المشهد، يعربدون في الشوارع والقصور، كأن دمنا ماء، وكأن بكاءنا ريح عابرة.
الأقسى من كل ذلك، أننا حتى اليوم لم نستشعر حجم الكارثة. نتصرف كأن شيئًا لم يحدث، نتصارع على بقايا جيفة تنهشها الديدان، نرفع لافتات المصالح الكاذبة، ونقيم احتفالات عرس على قبر الجمهورية. نرى موتها ميدانًا لتقاسم الرواتب بالدولار، وجوازات سفر ممهورة بالإقامات السياحية، وساحاتٍ يتسابق فيها المتزلفون لعق الأحذية طلبًا للكسب والمزيد من المكاسب.
بيعت سواحلنا بأبخس الأثمان، وسُلّمت جزرنا رهائن للمجهول، واعتُقل شعبنا في وطنه، ثم أُحكم عليه الطوق من أمامه ومن خلفه، فيما نحن كالبلهاء نتصارع على فتات الطغاة. لم يولد بطلنا بعد. لم يخرج من بيننا من يستحق أن يحمل المشهد. ما زلنا في انتظار “بطل” لا يشبهنا، يأتي من خارج أسوارنا.
لكن الجمهورية، إن عادت، فلن تعود على يد أمير يلبس البدلات الأنيقة، أو ساكن في الفنادق المنيفة. الجمهورية لن يحررها إلا صعلوك، ابن التراب، الخارج من قاع المعاناة، منبته الأرض وماؤه العرق، محرر من إغراء المال والجاه، همّه الوحيد أن يرمم ما تبقى من كرامة في وطن فقد كرامته. جمهوري لا يعرف سوى الكرامة زادًا، والحرية سلاحًا، والوفاء لعهد الشعب طريقًا.
هذا هو يومنا.. يوم الخيانة الكبرى، يوم سقوط اليمن، يوم بكاء الجمهورية.
المصدر: بران برس