لم يأتِ الربيع العربي- أو “العبري!” كما يسميه خصومه- من فراغ، وإنما بسبب فساد كبير عمَّ المنطقة العربية، خصوصًا في تلك الدول التي يُطلق عليها جمهوريات!
أما ملكيات النفط، فقد صار أكثر قادتها أثرياء، لكنهم لم يستأثروا بالثروات لأنفسهم فقط، فقد استفادت شعوبهم من تلك الثروات إلى حد كبير، وكان معظم أولئك القادة كرماء مع أشقائهم إلى حد بعيد. وتأتي الكويت في الطليعة، وتُوصف بأنها لا تُتبِع ما تعطي منًا ولا أذى، ومن بعدها - ولو بفارق - كانت الإمارات. ولا يعود ذلك الفارق إلى بخل الإمارات أو تقتيرها في عهد الشيخ زايد، لكن العوائد الكثيرة لثروتها جاءت متأخرة نسبيًا، وكانت تتلقى مساعدات من الكويت قبل عوائد ثروتها الكبيرة، التي يُوظف جزء منها الآن في عذابات بعض الأشقاء، وتأتي اليمن في المقدمة، وأقصد دعم الإمارات لمشروع التمزيق والتجزئة في اليمن.
وقدّمت السعودية مساعدات لدعم الموازنة في اليمن بعد حرب الستينات، مع تبرم وضيق من الرئيس القاضي الإرياني المعتز بنفسه وبلده كثيراً، والذي كان يرى أهمية التعامل الندي بين البلدين. وساعدت السعودية في إزالة آثار العدوان في مصر بعد 1967، ودعمت مصر وسوريا في حرب 1973.
في الستينات، كان الزعماء العرب يتنافسون على النزاهة، وكان منهم الملوك مثل فيصل بن عبدالعزيز وإدريس السنوسي، ومنهم الرؤساء مثل هواري بومدين، وبورقيبة، والسلال، وقحطان الشعبي، وسالمين، والإرياني، والحمدي. وكان عبدالناصر رمز النزاهة في الوطن العربي، ووقف معه الشعب المصري والعربي منتصرًا في 1956 ومنهزمًا في 1967. وعند وفاته، بكاه كثيرون ممن كانوا يعارضونه. وسُئل الشاعر أحمد فؤاد نجم عند وفاة عبدالناصر: لماذا تبكيه وقد سجنك؟ فكان رده: لأنه لم يكن يسرق!
وفي أحاديثه مع صحيفة الشرق الأوسط في منتصف الثمانينات، تحدث أبرز خصوم عبدالناصر في ذلك الزمن، مرشد الإخوان عمر التلمساني، بمزايا لعبدالناصر مقارنة بزملائه من الضباط الأحرار، ومنها الاستقامة الشخصية.
وعلى علو قدره، فقد كان عبدالناصر يستخدم ألفاظًا لا تليق في بعض خطاباته عن بعض من اختلف معهم من الملوك العرب. ويُؤخذ عليه أيضًا غياب تأسيس وترسيخ الديمقراطية في عهده، وتأسيسًا لما بعد عهده.
وأعظم ما في عبدالناصر أنه كان زعيمًا عروبيًا وثوريًا، لم يسرق ولم يحابِ المقربين والأقرباء.
وفي عهد التسابق والتنافس على الانضباط والنزاهة، قيل إن الملك فيصل كان يحدد مصاريف أبنائه، ويمنعهم من امتلاك سيارات وهم طلاب في الجامعة. وسُئل الأمير خالد بن فيصل ذات مرة، فأكد على ذلك، ثم سُئل: كم تحدد لولدك، الطالب في جامعة البترول، مصاريف شهرية؟ فقال: ألف! وكان يشير بذلك أيضًا إلى المبلغ الذي كان يحدده لهم والدهم، الملك القدير بحق، فيصل.
ومما لفت نظري في بداية الثمانينات، أنني لم أعرف أن زميلنا في الفصل في جامعة البترول والمعادن هو حفيد الملك عبدالعزيز إلا بعد ثلاثة أشهر من الدراسة، وكان ذلك مصادفة, عندما اقترحت عليه زيارة المكتبة في الجامعة لقراءة مقال في النيويورك تايمز كتبه وكيل الداخلية وقتها، وهو مثقف وأحد الأمراء السعوديين، ينتقد فيه سياسات الغرب في المنطقة في ذلك الزمن. وعندما جلسنا نقرأ المقال، قال: هذا - يقصد الكاتب - يصير خالٍ لي! يعني خاله!
قبل تعرفي عليه، كان زملاؤه ينادونه فيصل، ولم أكن أعرف أن الملك فهد عمه، وأن جده عبدالعزيز آل سعود.
تذكرت ذلك بعد سنوات في صنعاء، عندما علق يحيى الراعي على أحد الزملاء أعضاء مجلس النواب الشباب، وقال: موكب فلان أكبر من موكب علي عبدالله صالح بعد عشر سنوات من رئاسته! وقلت لأحد الزملاء المقربين من القصر قبيل اندلاع “الربيع العبري!”: لمَ لا تنصحوا الرئيس بإصلاح الوضع، أو أنكم ترغبون باستمرار الفوضى لأنها تناسبكم؟ فقال: نريد أن تستمر الأوضاع هكذا عشرين سنة! وكان ممن تعاظم نفوذهم وثرواتهم.
وتحدثت مع آخر كان يبدو فوضويًا ومشاغبًا قبل الربيع العربي، وقلت: تبدو كمن يرغب في أن يُنسب إليه الطيش والفوضى! فقال: إذا تمسكت بالقانون في بلدنا سوف تخسر ويُداس على رأسك، ولن تستفيد!
تبين لي بعد ذلك في المنفى أن ذلك الزميل في داخله محترم و”مؤدب”! ومثله صاحب الموكب الكبير! وكانت الفوضى والبلطجة سلوكًا مكتسبًا تعلموه، ومقصودًا، لأنهم وجدوه مفيدًا، ماديًا ومن حيث النفوذ، دون أن يردعهم أحد.
وقال آخر وقد جمع ثروة طائلة عن طريق استغلال النفوذ: إذا تمسكت بالنظام والقانون في اليمن فستموت جوعًا! كان ذلك التصريح بحضور ولدي صلاح، الذي عاد من حيث أتى إلى الغربة بعد سماعه ذلك التصريح المحبط!
وتُستثمر الآن المليارات المنهوبة من اليمن في دبي، وعمّان، والقاهرة، واسطنبول، وغيرها؛ كما أن لحرب العشر سنوات الأخيرة لورداتها الجشعين أيضًا وتجارها المستغلين، وغاسلي أموالها المحترفين.
تحدث محمد حسنين هيكل قبل الربيع العربي، أو قبل الانفجار الكبير، وهو يعلق على وثائق ويكيليكس التي نُشرت عن تونس، وكانت تلك الوثائق عن تقرير للسفير الأمريكي هناك وقتها، وهو يصف الأطباق الكثيرة وعددها، ونوعها، وقُدِّمت في مأدبة رسمية حضرها السفير.
وقال هيكل معلقًا: سينتج عن كل هذا البذخ والإسراف والإفراط والفساد انفجار كبير! ولذلك كان الربيع، الذي تحول إلى زلزال، وما يزال يتفاقم، بعد تعرضه للثورة المضادة بدعم وتمويل من فوائض نفط العرب.
ولو تُرك الربيع العربي يمضي قدمًا وتحتكم الشعوب إلى صناديق الاقتراع، لانضممنا إلى أمم الأرض المحترمة، ولكانت شعوبنا حرة وأمتنا حرة، ولما كان العجز سيد الموقف، ولما تحدث نتنيـ ـاهو الآن عن إسرائيـل الكبرى ومهمته الرسالية في إنجازها، ولما ماتت غـزة، حصارًا وقــ ـتلًا وجـوعًا، على مرأى ومسمع، ولم تسهم في إنقاذها ترليونات العرب الكثيرة.
كان يفترض أن يكون حال العرب أفضل الآن مما كانوا في عام 1973 - قبل خمسين عامًا. ولكن كبراءهم ضلّوا الطريق وأضلّوهم السبيل!
شاركت في يناير 2008 في ندوة في مقر الحزب الاشتراكي في صنعاء وتحدث أحد أعضاء الحزب الاشتراكي، بأن الرئيس صالح قد استولى على مزرعة لينين في أبين وتملكها لنفسه، فعلقت وقلت: لا أعرف بهذه المزرعة، وأعرف بمزرعة الجر التي تبرع بها الرئيس لصالح الأيتام كما علمنا؛ وفي كل الأحوال لا يجوز للرئيس أن يتملك أي شيء أثناء فترة رئاسته حسب الدستور والقانون، لا مزارع ولا شركات ولا غير ذلك، وإذا حدث ذلك، فعلى الرئيس إعادة المزرعة، بل يعلن أن كل ما آل إليه أثناء الحكم ملكية عامة؛ وتكون الخطوة التالية: استرداد كل ما تملكه النافذون الفاسدون دون حق.
قبل أن أنهي كلامي، في مقر الحزب الاشتراكي، غادر شخص آخر، غير المتحدث، متحججًا وغاضبًا، وبعدها بلغني الأستاذ محمد غالب أحمد بأن ذلك الشخص الذي غادر، تأسف بعد أن أدرك أن كثيرًا من أعضاء الحزب الحاكم، ضد الفساد أيضًا!
ولا أريد القول هنا: أن المعارضة جميعها نزيهة دائماً في بلداننا، أو في غيرها!
وكتبت معلقًا على تلك الواقعة، وقتها في 17 يناير 2008، مقالًا بعنوان عندما لا تكون للرئيس مزرعة!
في ذلك المقال أكدت على مبدأين أساسيين، وهما أن لا تكون السلطة مصدر ثراء للمسؤولين، وأن تكفل الدولة حياة كريمة لمسؤوليها وموظفيها وقادتها. وكون الرئيس لا يحق له أن يعمل في التجارة، ولا تكون السلطة مصدر ثروة له أو لغيره، اقترحت أن يُخصَّص بالقانون للرؤساء؛ الحالي والرؤساء السابقين، ومن سيكونون سابقين لاحقًا؛ معاشات مجزية ومكافأة نهاية خدمة مجزية، تجعل الرئيس يعيش حياة كريمة خاصة بعد تركه المنصب؛ وأشرت إلى ما أخبرني به صديق الرئيس السلال، رجل الأعمال البيضاني الأستاذ أحمد عبدالله العاقل، بأن المشير السلال (لم أذكر اسمه حينها)، مر عليه ذات عصرية، وقال له: نشتي دش ستاليت، يا أستاذ أحمد، على شان نشوف الأخبار، وألحقها بدعابة كعادته: ولا بتقول ما عادناش رئيس، وتعتذر!
وأتذكر كلام اللواء علي عبدالله السلال، وهو يتحدث عن منزل أخيه السفير جمال، الذي صادره الحوثيون، وهو يراجعهم في استرداده؛ وعلق على ظروف آل السلال، وقال: ما سرقناش!
تحدث هيكل منذ منتصف السبعينات عن تلاشي شرعية الثورة في المنطقة العربية، وهيمنة عهد شرعية الثروة!
ويبقى السؤال: أيهما مسؤول عما آلت إليه الأمور في منطقتنا العربية، هل هي الثورات التي قامت على ملَكِّيات وراثية بعضها لديها أحزاب وبرلمانات وديمقراطية نسبية، أو الثروة الهائلة من عائدات النفط التي قلبت أشياء كثيرة رأسًا على عقب، وجعلت الرؤساء العرب، حتى في البلدان العربية الفقيرة، يميلون إلى مجاراة من عدّوهم نموذجًا جديدًا يُحتذى به، في الثراء والتوريث، وصار الرؤساء يتصرفون وكأنهم ملوك أثرياء، دون ثروة محلية ضخمة، تلبي مثل تلك الرغبات وأنماط العيش الباذخ والسلوك المترف، لهم وللمقربين النافذين الفاسدين، ودون مشروعية لفكرة التوريث، في جمهوريات ثورية أثَّرت ذات زمان في كل اتجاه، وشكلت نموذجًا يهاب ويحترم ويُحتذى به، فصار الجميع يسعى إلى الانضباط، وكانت النزاهة وقتها مذهبًا للحكم في كل بلاد العرب تقريبًا، وكانت المنافسة على النزاهة والانضباط شرفًا ينشده من أراد التقدير والاحترام، من قبل الشعب والتاريخ، ومن نماذج ذلك ملك ورئيس، جمال عبدالناصر وفيصل بن عبدالعزيز، ولا نتحدث هنا عن الكمال فهو لله وحده.
والسؤال الدائم الذي لا يغيب عن البال ولا يمكن إغفاله: لماذا غاب المشروع الديمقراطي عن جهود كلا الزعيمين الكبيرين؟ وكان يمكن لأيٍ من بلديهما أن يكون نموذجًا يُحتذى به في منطقتنا وبلداننا.
ويكفي أن في الغرب من يقول إنه يحترم ويدعم إسرائيل؛ الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، التي تحاط بديكتاتوريات عربية قمعية متوحشة.
ولا تصفو الحياة دون الحرية، ولا شيء يغني عنها، لا النفط ولا الذهب، ولا الكاريزما ولا البهرج.
ولو توفرت الحرية والديمقراطية والمساءلة في بلداننا، فلن تكون السرقة يسيرة وسهلة للحاكمين، ولنجت بلداننا مما هي فيه من الاضطرابات والحروب والشتات والهوان والعجز.