;
توفيق ألحميدي
توفيق ألحميدي

تخدير المجتمع وسحق الوعي: المخدرات كسلاح للهيمنة في زمن الحروب المنفلتة 348

2025-08-09 02:39:47

في غضون عشرة أيام فقط، أعلنت السلطات اليمنية عن ضبط ثلاث شحنات مخدرات ضخمة مرتبطة بجماعة الحوثي. لم يكن ذلك مفاجئا لمن يراقب سلوك هذه الجماعة منذ بداية الحرب، بل هو امتداد لنمط مكرّس من استخدام المخدرات كسلاح في المعركة وكمصدر تمويل بديل في ظل اقتصاد حرب طويل الأمد، خلال عشر سنوات أصبح هذا السلوك سياسة ثابتة تتكرر بتواطؤ إقليمي وصمت دولي لافت، وتشير إلى تحول الجماعة من مجرد فاعل عسكري إلى منظومة مافيوية متكاملة تجمع بين الخطاب الديني وشبكات الجريمة العابرة للحدود.

ليست هذه المرة الأولى التي تُستخدم فيها المخدرات في سياق الصراعات، بل تعيد إلى الأذهان حرب الأفيون التي خاضتها بريطانيا في الصين في القرن التاسع عشر، حين فرضت المخدرات على مجتمع بأكمله لتفكيكه والسيطرة عليه. واليوم، تعيد الجماعات المسلحة خارج الدولة، كالحوثيين، إنتاج هذا النموذج بوسائل مختلفة وأهداف مدمّرة، حيث تُوظف المخدرات في تمويل الحرب، وترويجها في المجتمعات المحلية لتفكيك النسيج الاجتماعي وتسهيل السيطرة والتمدد.

ورغم رفعها شعارات دينية كبرى مثل “الموت لأمريكا” و”نصرة فلسطين”، تنشط جماعة الحوثي بفعالية في إدارة شبكات تهريب مخدرات تتنوع بين الحشيش والهيروين الكبتاجون، لا يتوقف الأمر عند حدود التهريب والتمويل، بل يتم توظيف هذه المواد في البيئة الداخلية ضمن استراتيجيات التجنيد والتطويع، ورفد اقتصاد الحرب، وغسيل الأموال، حيث تغرق الجماعة مناطق سيطرتها بالمخدرات، فالجماعة تعمل وفق استراتيجية مدروسة منذ استيلائها على صنعاء لتخدير الشباب وتجنيدهم، ولإضعاف الروابط المجتمعية لصالح الولاء الطائفي المسلح.

وفي تأكيد دولي واضح على هذا السلوك، أفادت المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، ومقرها جنيف، أن “ميليشيا الحوثي تشرف على تجارة الهيروين المربحة وتواصل السيطرة على تجارة القنب كمصدر رئيسي للتمويل وأداة فعالة في عمليات التجنيد”. وفي تقرير للإدارة العامة لمكافحة المخدرات في وزارة الداخلية التابعة للحكومة المعترف بها دوليا، تم الإعلان عن ضبط 246 شخصا في 161 قضية متعلقة بالمخدرات في المحافظات المحررة، تنوعت بين الإتجار والترويج والتهريب والتعاطي. وتضمنت المضبوطات كميات كبيرة من الحشيش والشبو والهيروين والكبتاجون، إضافة إلى مواد أخرى، وأشارت الوزارة إلى أن مصادر هذه المواد تعود إلى دول مثل إيران وباكستان وأفغانستان، في مؤشر على شبكة تهريب دولية تتقاطع مع مصالح الحوثيين وأدوارهم الإقليمية.

يعتمد اقتصاد الحوثيين على موارد غير مشروعة، على رأسها تجارة المخدرات، حيث يتم تهريبها من مناطق الصراع أو الدول المجاورة، ثم توزيعها في الأسواق المحلية أو تهريبها إلى دول الخليج. في الوقت ذاته، تُستخدم بعض هذه المواد في الجبهات العسكرية لرفع الحالة النفسية للمقاتلين، أو تحييد إحساسهم بالخطر والذنب، هذه التكتيكات الديناميكية تحوّل الحرب من صراع عسكري إلى نمط اقتصادي، ومن مشروع سياسي إلى شبكة تمويل قائمة على الانهيار الأخلاقي والاجتماعي.

ولا يمكن فهم هذه الظاهرة دون ربطها بالدور الإيراني، فإيران تشكل ممراً رئيسياً لتهريب المخدرات القادمة من أفغانستان، وتستغل هذه التجارة لدعم جماعاتها المسلحة في المنطقة. كما أن نماذج مماثلة ظهرت في لبنان، حيث اتُّهم حزب الله بإدارة مصانع للكبتاجون، وتكررت هذه الشبكات في سوريا، حيث تحوّلت الدولة نفسها إلى منتِج ومصدِّر للمخدرات، وتحديدًا الكبتاجون، في ظل الحصار والعقوبات. وهو ما يدل على أن المخدرات أصبحت جزءً من أدوات الحروب الهجينة التي تمزج بين الأيديولوجيا والقمع والجريمة.

في السياق الداخلي، يظهر أثر المخدرات بوضوح في تفكك المجتمعات المحلية، خاصة في مناطق سيطرة الحوثيين. فقد أدى تفشي الإدمان إلى ارتفاع الجريمة، وتآكل الأسرة، وغياب التعليم، وتفشي العنف داخل البيوت، فتزايد قتل الأقارب، ليس ذلك عرضاً جانبياً للحرب، بل هو جزء من بنية السيطرة، حيث تستخدم المخدرات لزرع الانهيار بدلا من مقاومته، ولخلق مجتمع خامل، مكسور، فاقد للأمل والقدرة على المقاومة، وهو ما يُمكّن الجماعة من فرض سلطتها دون مقاومة شعبية تُذكر.

النموذج السوري يعكس هذه الصورة بشكل أكثر وضوحًا. فالنظام السوري، بعد انهيار موارده، تحوّل إلى فاعل رئيسي في تهريب الكبتاجون عبر الموانئ والحدود، وأصبح تصدير المخدرات أداة تمويل وشكلًا من أشكال “الاقتصاد المقاوم”. هذا التلاقي بين النظام الاستبدادي والجريمة المنظمة لا يمثل انحرافًا موقتا، بل تحوّلا استراتيجيا في بنية السلطة، فالمخدرات هنا ليست فقط تجارة، بل أداة سياسية للبقاء، ولإغراق الخصوم في الفوضى والانهيار.

ما يجمع بين الحوثيين والنظام السوري وحزب الله وإيران هو تحوّلهم إلى سلطات ما بعد الدولة، تعتمد على التحالف بين الفاشية والجريمة، حيث تتداخل أدوات القمع مع شبكات المخدرات، ويُستخدم الدين أو القومية كشعارات للتبرير لا للتحرير، وتتحول الحرب من وسيلة لتحقيق غاية سياسية، إلى غاية بحد ذاتها، قائمة على تدمير الإنسان والمجتمع، وضمان استمرار السيطرة عبر أدوات التخدير والتفكك والبؤس العام.

ومن منظور علم النفس الاجتماعي، تمثل المخدرات أداة فعالة لإخضاع الأفراد نفسياً وتحويلهم إلى كائنات طيعة، منفصلة عن ذواتها ومجتمعها ، إذ تؤدي المخدرات إلى تدمير الجهاز العصبي المسؤول عن الإدراك والتمييز والشعور بالذنب والانتماء، وهو ما ينتج شخصيات سلبية، قابلة للتجنيد، وتمجيد المستبد، دون قدرة على المقاومة أو الرفض، وفي حالات كثيرة، يتحول المتعاطي إلى آلة قتل دون وعي، يرتكب الجرائم بحق أقاربه أو أبناء قريته، لأنه ببساطة لا يشعر بأنه ينتمي إليهم بعد الآن.

تؤدي المخدرات ايضا إلى تفكيك البنية الأسرية، وتحويل العائلة من شبكة دعم إلى بؤرة للصراع والانهيار. فالمدمن، في سعيه لإشباع حاجته، قد يسرق، يعتدي، يهين، أو يقتل، مما يؤدي إلى تحلل العلاقة الأسرية، ويضعف الحاضن الاجتماعي الطبيعي للطفل والشاب. وفي ظل هذا الانهيار، تتدخل الجماعة المسلحة لتقدّم نفسها كبديل، وتفرض هوية طائفية أو عقائدية بديلاً عن الانتماء العائلي أو الوطني.

ويُنتج هذا النمط ولاء زائفا قائما على الهروب، لا على الاقتناع. فالشاب المدمن، الفار من واقعه، يجد في الجماعة ملاذا نفسيا موقتاً، يمنحه الانتماء والسلاح والسلطة، ولو موقتاً. هكذا تخاطب الجماعة المناطق المهزومة في النفس، لا المناطق الحرة، وتُعيد تشكيل الوعي وفقًا لحاجتها، وليس لحقائق الواقع. وهذا يفسر لماذا تتحول فئة واسعة من المدمنين في مناطق النزاع إلى أدوات قتل، وتُستخدم كوقود في جبهات المعارك دون إحساس بالخسارة أو المعنى.

إن الحرب اليوم ليست مجرد اشتباك عسكري، بل هي مشروع شامل لإعادة تشكيل الإنسان والمجتمع، واستخدام المخدرات ليس هامشا، بل في صلب هذا المشروع. فحين يخدر الجسد، وتفرغ النفس من معناها، وتفكك العائلة، ويغسل الوعي، يصبح القتل مجرد تفصيل، والولاء للجلاد مجرد “خيار لا بد منه”. وهذه هي أخطر نتائج المخدرات حين تدار بوعي من قبل سلطات وجماعات تعرف جيداً أنها لا تستطيع أن تحكم مجتمعًاً حراً، فتلجأ إلى إعادة صناعته.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2025-11-15 02:53:46

جيش المدرسين!

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد