في ذروة المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة، ومع اتساع رقعة الدم والركام، يبرز سؤال لا يمكن تجاهله: أين الشعوب المسلمة؟ أين الملايين الذين طالما تماهوا مع القضية الفلسطينية، ورفعوا أعلامها، وهتفوا باسمها في الساحات؟ لماذا تراجع الحضور الشعبي الحقيقي، وغابت موجات الغضب التي كانت تشعل العواصم العربية والإسلامية كلما اشتدت الحرب؟ ما الذي كُسر داخل الإنسان العربي والمسلم حتى بات يراقب بصمت، أو يكتفي بهاتف وشاشة، وكتابة هاشتاج إعلامي، ويُشارك فيديو مؤثر، ثم ينكفئ عن الفعل العام؟
هذا الغياب أصبح مقلقًا، خاصةً والشعوب يُؤمّل عليها في قيادة عجلة التغيير، وكنس هذه القامة السياسية التي نعيش فيها. لكن بالمقابل، هل انطفأت الفاعلية لدى الشعوب وليدة اللحظة، أم نتيجة لمسار طويل ومعقد من التفكيك، والقمع، والتحولات الاجتماعية والنفسية والسياسية، التي طالت وعي الإنسان وسلوك الجماعة منذ العقد الأخير، لا سيما بعد انطفاء وهج الربيع العربي، وتحول الآمال إلى رماد؟
والحقيقة أن المطالبة بتحرك الشعوب قد تكون صرخة في وادٍ موات، حيث لم تعد هذه الشعوب سوى اسم بلا معنى، وهياكل بلا روح، فقدت قيمها بعد أن تعرضت – خاصة بعد ثورات الربيع العربي – إلى موجة عنيفة من الارتداد السلطوي، أعادت معها الأنظمة قبضتها على الشارع، وأحكمت السيطرة على مؤسسات المجتمع المدني، فُسحقت النقابات، وقُمعت الحركات الشبابية، وتعرض الناشطون للمطاردة والسجن والتشويه. في بعض الدول، لم تكتفِ السلطة بإجهاض الحراك، بل حرصت على تدمير كل بنية يمكن أن تُنتج وعيًا نقديًا أو فعلًا منظمًا، فباتت الساحات فارغة من أدوات الفعل الجماعي.
ولم تكن الطبقة المتوسطة، من ذوي الدخل المتوسط، التي طالما شكّلت القاعدة الصلبة للحراك المدني والسياسي، في منأى عن هذا التآكل. فقد تعرضت لعملية تجريف ممنهجة، عبر الإجراءات الأمنية القمعية، والسياسات الاقتصادية الضاغطة، وتدهور التعليم والخدمات، وتضييق المجال العام. ملايين من أبناء هذه الطبقة انزلقوا إلى الفقر، أو سقطوا في دائرة الخوف، أو انكفأوا في عزلة فردية تحكمها اعتبارات البقاء لا المبادرة.
كما لعب الفضاء الرقمي دورًا سلبيًا على مستوى الجمهور العربي، في مقابل إيجابيات كثيرة في التعريف بالقضية الفلسطينية لدى الجمهور الغربي والآسيوي والأمريكي الجنوبي، ما ترتّب عليه خسارة كبيرة في الصورة الذهنية لإسرائيل. لكن على المستوى العربي، حينما أُغلقت الشوارع، لجأ الناس إلى الفضاء الرقمي كبديل رمزي. هناك، وجدوا متنفسًا للتعبير، ووهمًا بالفعل. تحولت التظاهرة إلى منشور، والفيديوهات إلى وسيلة لجلب لايكات المشاهدين، والصرخة إلى وسم، والموقف إلى “مشاركة”، ثم دخلوا في عالم جني المال. لكن هذا التحول لم يُنتج ضغطًا حقيقيًا، بل عزّز شعورًا زائفًا بالإنجاز، وأعطى الأنظمة فرصة لإعادة ضبط المشهد على إيقاع “احتجاج رقمي غير مُقلق”. مع يقيني أنه على المدى البعيد سيُراكم وعيًا ثوريًا لن يستطيع أحد إيقافه، ولا يمكن مقارنته غربيًا بما حدث عربيًا، لأن القضية العربية حاضرة وهي جزء من حياتنا وتاريخنا، ومن المفترض أن يكون فعلها قويًا على الأرض.
هذا الانتقال الرقمي ترافق مع شعور جمعي بالخذلان، ولّد قناعة أن لا شيء يتغير. فالاحتجاجات لم تُسقط الطغاة، والتقارير لم توقف الجرائم، والتضامن لم يُنقذ الضحايا. بذلك، تراكمت خيبة الأمل، وتكوّن في الوعي ما يشبه العجز المكتسب، حيث يفقد الإنسان إيمانه بأن لصوته قيمة، أو لفعله أثر.
إلى جانب التخدير الرقمي، ساهم الانقسام السياسي والدموي الذي عرفته المنطقة بعد الربيع العربي كعامل مضاعف، وتخندق الأحزاب والقوى خلف أجندتها، دون قدرة على التجديد، والإبداع السياسي، إلى نوع من انعدام الثقة، حيث تبدلت خارطة العدو في الوعي الشعبي، وأصبح القريب المختلف – طائفيًا أو سياسيًا – أكثر تهديدًا من المحتل البعيد. تآكلت القضايا الجامعة، وتراجعت فلسطين من كونها رمزًا توحيديًا إلى ملف قابل للتوظيف، أو موضوع اختلاف.
في ظل هذا التآكل، عرفت الشعوب أيضًا حالة من التبلد النفسي الجماعي، ناجمة عن تكرار الصدمات. لم تعد صور المجازر توقظ الضمير كما في السابق، ليس لغياب الإحساس، بل لأنها أصبحت مشهدًا مألوفًا. هذا التبلد ليس لا مبالاة، بل آلية دفاع نفسي، تلجأ إليها المجتمعات حين تعجز عن احتمال المزيد من الألم.
وقد ساهم في ذلك أيضًا تحوّل القضايا إلى صور، والحقائق إلى مشاهد عابرة، في عالم رقمي يُسحق فيه المعنى تحت وطأة السرعة. لم تعد فلسطين دمًا وكرامة وحقًا مغتصبًا، بل لقطة ضمن تدفق لا ينتهي من المحتويات. فحين يصبح الدم جزءًا من المشهد اليومي، يضعف أثره، ويتحول إلى صورة جميلة مؤلمة، بلا فعل يتبعها.
في موازاة كل ذلك، لعب الخطاب الدولي دورًا مخدرًا آخر، ومصدرًا لليأس، في ظل عربدة إسرائيل في المنطقة، وتفوقها العسكري. فقد تم تسويق المأساة الفلسطينية على أنها “نزاع معقد” لا حل له، بينما تُمنح إسرائيل حصانة مطلقة باسم “حق الدفاع عن النفس”. هذا التزييف المنهجي للواقع أفقد كثيرين ثقتهم في العدالة الدولية، وعزّز قناعتهم بأن العالم لا ينصف المظلومين، بل يُبرر للجناة.
وفي العمق، ساهمت السياسات الاقتصادية والإعلامية والثقافية التي رسّخت الفردانية في جعل الإنسان العربي يعيش في دائرة النجاة الشخصية. بات همه إنقاذ نفسه، لا نصرة قضايا الجماعة. حتى القيم الكبرى – كالحرية، والكرامة، والعدل – أصبحت في نظر كثيرين ترفًا لا وقت له، أو عبئًا لا قدرة عليه.
هذا ليس تبريرًا، ولا دعوة لتقبّل الصمت كواقع دائم، بل هو محاولة لفهم ما جرى للشعوب العربية من الداخل، لا من فوق. فالشعوب لم تفقد ضميرها، لكنها فقدت أدواتها، وشُلت إرادتها، وتعرضت لعملية استنزاف مركّبة طالت وعيها، وكرامتها، وأمنها. ما نراه اليوم ليس تخليًا طوعيًا، بل انعكاس لانطفاء الفاعلية تحت ضربات القمع، والإخفاق، والخيانة المتكررة من نُخب سياسية استثمرت دمها دون وفاء.
إن الشعوب ليست موضع اتهام، بل موضع سؤال: كيف يمكن استعادتها؟ كيف نُعيد للغضب معناه، وللصوت صداه، وللحشد فعله؟ هذا هو جوهر المقال، لا جلد الضحية، بل تفكيك أسباب خنقها، واستشراف طريق لاستنهاضها من جديد.
غياب الشعوب ليس خيانة، بل نتيجة هندسة قمعية معقدة، تفكك فيها الوعي، وتم تفريغ المعنى، وتآكلت فيها بنية الجماعة. لكنه غياب مؤقت، وليس قدرًا محتومًا. فكل ما تراكم من ضعف يمكن تفكيكه، وكل ما انكسر يمكن ترميمه.
إن استعادة الفاعلية تبدأ من استعادة المعنى، من إعادة بناء الوعي الجمعي، وترميم الثقة، وتكوين أدوات جديدة للتأثير. فلسطين لم تغب عن الضمير، لكنها تحتاج إلى يقظة، إلى فعل يتجاوز الهاشتاغ، ويعيد للناس شعورهم بأن صوتهم لا يُنسى، وأنهم، رغم كل ما فُعل بهم، ما زالوا قادرين على التغيير.